فى إطار العمليات المتسارعة للتحول إلى مجتمع المعلومات وصناعات المعرفة بدأت تظهر ممارسات جديدة لقياس الرأى العام عبر شبكة الإنترنت، وتأسست بالفعل شركات ومراكز متخصصة فى إجراء وتحليل استطلاعات الرأى العام الفورية الإلكترونية On – line polling، وقد أثار هذا النمط الجديد جدلاً ونقاشًا حول مدى دقة وموضوعية نتائجه، وعلاقته بإشكالية العدل والمساواة داخل المجتمع وبين المجتمعات، وبين من يملكون أجهزة كمبيوتر وتتوافر لديهم خدمات الاتصال والإنترنت، وبين من لا يملكون أو يملكون لكنهم يعانون من أمية الكمبيوتر والإنترنت.
وبداية تجدر الإشارة إلى أن الأساليب الحديثة فى قياس الرأى العام سواء من خلال المسح أو الاستطلاع هى ثمرة تطور تاريخى يزيد عن 75 سنة، شهد جدلاً ونقاشًا عنيفًا حول الأسس النظرية والنتائج العملية لأساليب قياس الرأى العام، وقد غلبت على هذا النقاش الجوانب العملية أكثر من الجوانب النظرية المجردة.
ويمكن القول إن البداية العلمية لاستطلاعات الرأى العام ترجع إلى عام 1935 عندما أجرى جورج جالوب George Gallup وارشيبالد كروسلى Archibald Crosley والمو روبر Elmo Roper استطلاعات للرأي، للتنبؤ بنتيجة انتخابات الرئاسة الأمريكية، وخلال هذه السنوات الطويلة، وعبر الممارسة العملية، والنجاح أحيانًا والفشل فى أحيان أخرى تطورت أساليب قياس الرأى العام واتخذت طابعًا علميًا، كما انتشر استخدامها خارج الولايات المتحدة التى تعتبر الدولة الرائدة فى مجال دراسة وقياس الرأى العام.
وخلال الفترة من 1935 – 1979 أجرى جالوب وكروسى وروبر 1013 استطلاعًا للرأى العام، سجلت تطورًا ملحوظًا فى التخطيط لإجراء الاستطلاع، والمعاينة وإجراء المقابلات وتدريب الباحثين أو المستجوبين، والمبحوثين أو المستجيبين وأدوات وتكنيكات جمع البيانات، خاصة الاستبيان، وتحليل وعرض البيانات.
وفى نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وتحديدًا عام 1978، بدأت عملية نشطة للتكامل والتداخل المنهجى بين الباحثين فى علم النفس المعرفى وباحثى مسوح واستطلاعات الرأى العام، وأخذ التعاون طابعًا جديًا بداية من عام 1983، تجسد فى تنظيم سلسلة بحوث وندوات مشتركة بين مراكز وجامعات أمريكية وبريطانية، وانتهت إلى إصدار عدة تقارير مهمة عن مشكلات الصدق والثبات فى أساليب قياس الرأى العام، ووسائل التثبت من موضوعية الجوانب المختلفة فى أسئلة المسوح والاستطلاعات، علاوة على التوصية بمواصلة الجهود البحثية الرامية إلى التكامل المنهجى بين العلوم المختلفة التى تهتم بمسوح واستطلاعات الرأى العام.
وفى التسعينيات، ومع التطور التكنولوجى وثورة الاتصالات والحاسبات، أخذت أساليب القياس فى الاستطلاعات والمسوح دفعة نحو التحول من دائرة المهنة أو فن التنبؤات إلى دائرة العلم، ونشطت الجهود البحثية والعلمية نحو تطوير عمليات وضع الأسئلة وتحديد الدلالات اللغوية وترتيب الأسئلة وقوائم الاستجابات، وسحب العينات، وازداد أيضًا الاهتمام بالمستويين الكلى والجزئى فى قياس الرأى العام، بالإضافة إلى استخدام أساليب كمية وكيفية فى التعريف على آراء الجمهور. من جانب آخر تسارعت عملية التكامل بين بحوث الاتصال والرأى العام لتشكل ميدان أكثر تكاملاً من الناحيتين النظرية والمنهجية.
ومع التوسع الكبير فى استخدام الكمبيوتر والإنترنت فى الولايات المتحدة بدأ التفكير فى إجراء استطلاعات فورية إلكترونية on–line polling، وبدأت بعض الشركات فى استخدام هذا النوع من الاستطلاعات، وأطلقت عليه استطلاع البريد الإلكترونى E.Poll، وقد أسس أفراد وشركات مواقع على شبكة الإنترنت متخصصة فى إجراء وتحليل هذا النوع من الاستطلاعات وتوزيع نتائجه، ولعل من أول وأشهر هذه المواقع موقع E.poll الذى تم تأسيسه عام 1997 فى مدينة لوس انجلوس الأمريكية على يد شركة تحمل نفس الاسم، بهدف نشر وترويج استخدام استطلاعات ومسوح الرأى العام الفورية الإلكترونية.
لكن استخدام الاستطلاعات والمسوح الفورية الإلكترونية يثير كثيرًا من القضايا والإشكاليات، منها ما يتعلق بدقة المعاينة الفورية الإلكترونية، فحتى الآن من الصعب سحب عينة عشوائية بسبب أن أجهزة الكمبيوتر والاشتراك فى خدمة الإنترنت غير متاحة لكل الأسر فى كثير من دول العالم، خاصة فى مجتمعات دول الجنوب مثل المجتمع المصرى. كذلك فإن عملية المعاينة الفورية الإلكترونية تواجه إشكاليات وصعوبات أهمها عدم تحديد إطار مجتمع العينة، وصعوبة الوصول لعناوين البريد الإلكترونى لكل المشتركين، ووجود أكثر من عنوان للمشترك الواحد، فضلاً عن صعوبة التحقق من شخصيات المشتركين وخصائصهم الديموغرافية.
ورغم هذه المشكلات وغيرها فأنا وكثير غيرى نراهن على المستقبل، وعلى التوسع المنتظر والسريع فى انتشار أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت، والتى يمكن أن تسهل عملية الاستطلاع الإلكترونى، ولاشك أن انتقال المجتمعات البشرية لعصر المعلوماتية مسألة وقت وقدرات، أكثر من كونها إمكانيات مادية، وستؤدى هذه النقلة النوعية إلى تعظيم فرص المساواة والعدل بين البشر، وزيادة مشاركتهم فى الحياة العامة، فى هذا الصدد تطرح فكرة التصويت الانتخابى عبر الإنترنت، وسهولة المشاركة فى الاستطلاعات الفورية وخفض تكلفتها، مما قد يعنى إعادة النظر فى صناعة الرأى العام، وفى المفاهيم والمناهج والأدوات المستخدمة.
وأعتقد أن مجتمع المعلومات سيقود إلى الديمقراطية الإلكترونية والتصويت الإلكترونى، واستطلاعات الرأى العام الإلكترونية الفورية، ومثل هذه التحولات تستدعى التفكير والبحث عن مناهج وأساليب جديدة مثل بناء أداة للمسح التفاعلى، وتصميم إطار للعينة الفورية الإلكترونية، وابتكار أدوات تمكن من تحديد عناوين البريد الإلكترونى للمشاركين فى هذا الاستطلاع والتعرف على خصائصهم الشخصية، من حيث النوع والعمر والتعليم والمهنة. أكثر من ذلك فإن هناك بعض الأفكار بخصوص تطوير تنظيم وإدارة مجموعة النقاش على الإنترنت، وكذلك إجراء ما يسمى باستطلاع الرأى العام التفاعلى الفورى، الذى يمكن الفرد ضمن عينه محددة أن يقدم إجاباته لتظهر له نتائج الاستطلاع.