مسالخ التعذيب.. إليك أكثر 5 أجهزة مخابرات رعبًا في التاريخ الحديث

1

مصطفى مصيلحي

تعتمد الدول على أجهزة المخابرات في عمليات جمع المعلومات بخصوص موضوعات أو دول معينة، وتحليل هذه البيانات، وبحث طرق استغلالها لما يمكن اعتباره مصالح قومية واستراتيجية. هذه المعلومات والبيانات التي تجمعها وتحللها أجهزة المخابرات تعتمد عليها الحكومات والدول في تكوين وإقرار خطط تخص الأمن القومي والسياسات الخارجية، وأهداف أخرى طبقًا للقوانين المحلية والدولية.

يصرخ في وجهنا التاريخ بالكثير والكثير من الأحداث التي تحولت فيها هذه الأجهزة التي تكتنفها السرية إلى أسلحة تخترق باستمرار حقوق الإنسان والمواثيق والمعاهدات الدولية؛ فكانت هذه الأجهزة في أحيان كثيرة مسرحًا للكثير من الانتهاكات التي تبدأ من التعذيب بأساليب قاسية، إلى التسبب بعاهات جسدية وصدمات نفسية لا يمكن الشفاء منها، وأحيانًا كانت تصل الأمور إلى القتل المتعمد. نلقي في هذا التقرير الضوء على بعض من أكثر أجهزة المخابرات قسوة وانتهاكًا لحقوق الإنسان في العصر الحديث.

1. المخابرات السوفيتية.. الحكم بسلاح «الرعب الثوري»
كانت المخابرات السوفيتية والمعروفة باسم «لجنة أمن الدولة» (KGB) هي الجهاز الاستخباراتي الرئيس في الاتحاد السوفيتي، والذي اتخذ أسماء كثيرة في حقب زمنية مختلفة مع بداية تكوينه عام 1917، وكانت نهاية هذا الجهاز الاستخباراتي عام 1991 مع تفكك الاتحاد السوفيتي.

تمتلك الاستخبارات السوفييتية تاريخًا كبيرًا من الانتهاكات الصارخة في حق المواطنين السوفيت ;المواطنين الأجانب، وقد امتدت مناطق نفوذه في بقاع متعددة من العالم. أحد أكثر قصص جهاز الاستخبارات السوفيتي إيلامًا حدثت في دولة لاتفيا، والتي سيطرت القوات الروسية عليها عام 1940 وانتهت بالاستقلال عام 1990.

لاتفيا والاتحاد السوفيتي.. قصة دولة تحولت إلى معسكر تعذيب
أول الخطط التي نفذها السوفييت هي إجلاء 15 ألف شخص من المواطنين اللاتفيين الذين كان الاتحاد يشك في ولائهم للمخابرات الروسية، واستيقظ هؤلاء المواطنون ليلًا، ومن بينهم 2400 طفل، ليجدوا أنفسهم مدفوعين إلى عربات القطار الذي سينقلهم إلى المجهول. بدا وكأنهم كانوا يشعرون بأن هذه هي لحظاتهم الأخيرة، فتركوا جميعًا وصاياهم لأقاربهم؛ أكثر من نصف هؤلاء سوف يموتون لاحقًا.

أقامت الاستخبارات السوفيتية المبنى الذي حدثت فيه أبشع عمليات التعذيب والقتل العمد في التاريخ بالعاصمة اللاتفية ريجا. كانت الزنازين في هذا المبنى ذات مصابيح لا تنطفئ أبدًا؛ وذلك من أجل جعل عملية النوم في ذاتها تحمل المعاناة الكافية لمنع المساجين من النوم، وكان حراس الزنازين ينظرون إلى داخل الزنازين ليروا أي مسجون قد سقط في النوم من الإرهاق فيقومون بإيقاظه مباشرة.

كانت الزنازين مصممة فوق أنظمة تدفئة، وكانت تُرفع درجة الحرارة فيها إلى الحد الذي يمكن بالكاد تحمله قبل أن يسقط المساجين صرعى. مع درجة الحراراة المرتفعة كانت تحتوي الزنزانة الواحدة على ما يصل إلى 42 سجينًا، بينما كانت مصممة ليكون بها أربعة أشخاص على الأكثر.

في الحبس الانفرادي كانت الزنزانة بمساحة متر واحد لا يسمح فيها للشخص بالنوم لأيام متعاقبة، مع أنظمة صوت تبث ضوضاء مستمرة، كان الهدف منها هو دفع الشخص لأعلى مراحل الجنون. في هذا المبنى كانت هناك غرفة للإعدامات، والتي لم يدخلها غير المحظوظين، وقد تم تصميمها بشكل يسمح بالقتل السريع والتنظيف السهل من الدماء بصناعة أرضية منحنية لا تسمح بتجمع الدماء عليها. يوم اقتحام المبنى من النازيين عام 1941، تم العثور على 240 مظروفًا لطلقات في أرضية هذه الغرفة فقط لتحكي للجميع النشاط اليومي من القتل الذي شهدته هذه الغرفة.

فلسفة الرعب الأحمر
لم يكن العنف المجرد هو الهدف الأساسي للمخابرات السوفيتية منذ قيامها، بل كان ترسيخ الرعب الأحمر هو الهدف؛ فقد صرح فيلكس دزيرزينسكي، مؤسس أول وحدة للمخابرات السوفيتية عام 1917 للصحف وقتها قائلًا: «إننا نقدم أنفسنا كإرهاب منظم – وهذا يجب أن يقال بكل وضوح – هذا الإرهاب هو الآن ضروري جدًا في الحالة التي نعيشها في زمن الثورة». استمرت فلسفة الرعب هذه – وقت الثورة، بحسب تعبير دزيرزينسكي – حتى 1991؛ لتنتهي مع انتهاء الاتحاد السوفيتي نفسه، وسط تقديرات تقترح بأن هذا الرعب قد قضى على 20 مليون شخص من غير الموثوق في ولائهم للاتحاد السوفيتي فقط.

فيلكس دزيرزينسكي، مؤسس أول وحدة مخابرات سوفييتية.

أحد أكثر القصص رعبًا في تاريخ المخابرات السوفييتية كانت خاصة بمنظمة «جالوج» (Gulag)، والاسم هو اختصار للمديرية العامة لمخيمات العمل التصحيحية (The Chief Directorate of Corrective Labor Camps) وكان الهدف الأساسي لتكوين هذه المنظمة هو توفير العمالة الرخيصة لتنفيذ مهمات في مناطق قاسية ونائية في أقصى الشمال، حيث الظروف البيئية التي لا يتحملها البشر.

قامت المخابرات السوفيتية بتوفير العمالة اللازمة لاستمرار هذه المعسكرات في إنجاز الأعمال. وقدمت المخابرات الروسية العمالة المكونة من «أعداء العمال»، بحسب التعبير الذي كان يستعمل ثوريًا وقتها لأغراض في مصلحة السلطة، والخونة والمخربين والمحرضين، بحسب تعريفات السلطة لتلك المصطلحات. تمتعت المخابرات السوفييتية بالحرية الكاملة في القبض على الأشخاص لمجرد الشك فيهم، أو وجود شائعات بخصوصهم، وكان يتم توصيفهم بأنهم «أعداء السوفيت»، وكانت إدانتهم عملية بسيطة تنتهي بالموت، أو بقضاء 25 عامًا من الأشغال الشاقة.

شملت هذه المعسكرات كذلك الجنود الأسرى من الجيش السوفيتي العائدين من الحرب، وقد تمت معاقبتهم لعدم قتالهم حتى الموت في سبيل السوفيت. جميع أسر وأقارب المحكوم عليهم في هذه المعسكرات حرموا من كل حقوقهم المدنية، وتم ترحيلهم إلى أجزاء قاسية من سيبيريا لمدة خمس سنوات. ساهمت هذه المعسكرات في بناء الكثير من المعالم الشهيرة للسوفيت، مثل قناة بحر البلطيق، ومسارات الأنفاق الشهيرة بموسكو، إضافة إلى مشاريع التعدين واستخراج الفحم تحت ظروف بيئية غير محتملة، ومعاملة قاسية. الحقيقة المفزعة لهذه المعسكرات هي أن نسبة الوفاة بين هؤلاء المساجين في هذه البيئة الجديدة كانت 80% في الأشهر الأولى؛ لعدم قدرة الجسم على التأقلم مع البرودة القارسة.

2. السافاك.. كيان يعلم كل شيء
تمتلك «منظمة المخابرات والأمن القومي الإيرانية (سافاك)» تاريخًا ملطخًا بالدماء فيما يخص التعامل مع السجناء السياسيين في عهد شاه إيران، محمد رضا بهلوي. كان الشاه متشككًا بشدة ناحية كل من يبدو عليه، أو يشاع عنه، اعتناقه أفكارًا شيوعية، وكان دائمًا ما يقول: إن أعداء البلاد هم «الخطر الأحمر» الذين يأخذون خططهم والدعم من موسكو، وقد كان السافاك هو اليد الطولى للشاه من أجل القضاء على هؤلاء الشيوعيين، وكان إنشاء السافاك بطلب مباشر من الشاه، وقد عمل على تسمين هذا الكيان ليصبح في وقت ما في أثناء فترة حكمه مكونًا من أكثر من 300 ألف شخص، طبقًا لبعض التقديرات، كانوا يحكمون بالرعب أمة تبلغ 34 مليون مواطن.

تعذيب النساء يتحول إلى طقس ترفيهي
نجح السافاك في صناعة صورة متخيلة مغرقة في الوحشية بالنسبة للشعب الإيراني؛ فهم يعلمون – في نظر كل شخص – ماذا يفعل وماذا يعتقد، وهم يعلمون كل شيء، ويتحكمون في كل الأمور الصغيرة والكبيرة في طهران وبقية المدن الإيرانية، وتمتد أعينهم في كل بقعة داخل الأراضي الفارسية.

كانت إدارة السافاك في سعيها لتثبيت الصورة المتخيلة عن المؤسسة بحاجة إلى اختراق الخطوط الحمراء للمجتمع الإيراني، والتي يمكن أن يصنف انتهاك أجساد النساء الإيرانيات باعتباره أحدها. ظهرت الكثير من القصص التي تروي الانتهاكات التي تبدأ من التعذيب الوحشي إلى الاغتصاب الكامل للمعتقلات الإيرانيات، إحدى هذه القصص ترويها سجينة فضلت أن لا تذكر اسمها حينها، تقول فيها: «عندما جاءوا إلى بيتنا، قبضوا عليَّ وعلى أخي وأختي، وكنت أنتظر أن يعذبوني. عندما وصلنا إلى السجن قاموا بتعصيب عيوننا، ونقلونا على الفور إلى غرفة الاستجواب. كانت لغتهم مليئة بالألفاظ القبيحة والإهانات الموجهة إلينا. لقد أزالوا عني كل ملابسي، بما فيها البنطال، وبدأوا يلعنونني. أجبروني على الانحناء إلى كرسي، وبدأوا يضربونني بقسوة، وقاموا بإطفاء السجائر في صدري. كان تعذيبي بمثابة اللهو والألعاب بالنسبة إليهم».

تضيف هذه المعتقلة في قصتها: «لقد فقدت شعوري بكل حواسي. شعرت بالإهانة والإذلال الكامل. شعرت بالوحدة والضعف أمام رجال متوحشين. كان هناك فرق هائل بين ما قرأته قبل ذلك وما عانيته في تلك اللحظة. عندما شعروا بالتعب من مواصلة ضربي، شعرت فجأة بألم هائل في جسدي، جسدي كله كان يتألم، ولم أستطع تحديد من أين يأتي الألم. فجأة وبينما عيناي معصوبتان، وجدت أن أحد المحققين قد بدأ يغتصبني». لم يكن رجال السافاك ليتوقفوا عند مراحل التعذيب الوحشي والاغتصاب، بل ذهبوا إلى مراحل أبعد من ذلك بملاحقة وقتل المعتقلين عقب خروجهم من الاعتقال. حدث ذلك مع المعتقلة باري آياتي (Pari Dokth Ayati) التي تم اعتقالها عام 1974. يحكي عنها زملاؤها الذين قضت وقت اعتقالها في تحفيزهم والاهتمام بهم والغناء لهم بصوتها العذب. قُتلت باري عقب خروجها من المعتقل مباشرة بطلق ناري.

أجهزة مخابرات

تلك القصص الخاصة بطرق التعذيب التي انتهجها السافاك لا يمكن حصرها في الحقيقة، لكن طريقة معينة ذكرتها فريدة أزامي، إحدى السجينات، والتي كانت تحمل طفلًا في شهره السابع عندما كانت في قبضة السافاك عام 1974. تحكي فريدة أن هناك أسلوبًا مشهورًا في التعذيب الذي كان يعتمده السافاك بحق السجناء السياسيين، وكان هذا الأسلوب يتمثل في مكوث أحد الجنود فوق صدر السجين، ويحاول الضغط على مقلتي العين لاقتلاعهما، وتحكي أنها نجت من هذا المصير المرعب نظرًا لصعوبة أن يرتكز أحدهم فوق صدر امرأة تحمل في بطنها طفلًا في شهره السابع.

3. الموساد.. آلة الاغتيالات الأقوى في التاريخ
يعتبر «جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد)» أحد أكثر أجهزة الاستخبارات شهرة في العالم. إلى جانب شهرته بسبب كونه الذراع الأمنية لدولة تقبع وسط أحد أكثر الصراعات المسلحة الموجودة في العالم في وقتنا الحالي؛ فإنه قد ظهر للعالم على أنه أحد أكثر أجهزة الاستخبارات في العالم استخدامًا لاستراتيجية الاغتيال بحق الأفراد الذين تم تصنيفهم مسبقًا بأنهم خطر على أمن إسرائيل.

في فترة قصيرة بعد تدشينه عام 1949 اكتسب الموساد سمعة سيئة بخصوص الجرائم التي يستمر في ارتكابها الجهاز. ويتناول كتاب «Rise and Kill First» للصحافي الإسرائيلي رينون بيرجمان التاريخ المظلم للعمليات السرية التي مارس فيها جهاز الموساد القتل خارج إطار القانون.

أجهزة مخابرات

اغتال جهاز الموساد أشخاصًا خارج إطار القانون لأسباب سياسية أكثر من أية دولة في العالم الغربي. بحسب بيرجمان، والذي التقى بأكثر من ألف شخص أثناء إعداده للكتاب، فالموساد منذ نشأته قد قتل أكثر من 3200 شخص خارج إطار القانون في عمليات سرية؛ ليست جميعها بحق سياسيين لدول تعادي إسرائيل، لكن الكثير منهم كانوا ضحايا أبرياء تواجدوا في المكان الخطأ والوقت الخطأ، والمثال الأبرز على هذه النوعية من الخسائر الجانبية لعمليات الموساد كانت مقتل نادل مغربي يعمل في مدينة ليلهامر النرويجية عام 1973. معظم ضحايا الموساد في هذه العمليات كانوا من الفلسطينيين، لكن الموساد قد استهدف أيضًا ضمن هذه العمليات أشخاصًا من مصر وسوريا وإيران وغيرها من الجنسيات.

يبرز بيرجمان في كتابه أن الكثير من هذه الحالات كانت خارج إطار مبدأ «أمن الدولة»، حتى إن المسؤولين الإسرائيليين في بعض هذه الحالات قد دهسوا القانون الذي كان محل اتفاق ضمني ورسمي داخل الجهاز، وهو أن هذه العمليات تكون في إطار الضرورة لأشخاص معينين يتم تحديدهم بواسطة خطوات داخلية معقدة يقوم بها أشخاص بمهام محددة داخل الجهاز.

يقول بيرجمان: «هناك بعض الاغتيالات التي تمت بحق مشتبه بهم، والذين لم يشكلوا أي تهديد وقتي. لم تُخترق القوانين الإسرائيلية نفسها، وقوانين الحرب بواسطة عملاء مارقين داخل الجهاز، لقد أقرت هذه العمليات رسميًا القتل خارج نطاق القضاء».

للموساد تاريخ طويل من الاغتيالات التي تمت في معظمها بحق العلماء المتخصصين في الأسلحة النووية وتخصيب اليورانيوم لدى الدول التي تجمعها علاقات غير مستقرة مع إسرائيل، أو أشخاص ومسؤولين على علاقات قوية بمنظمات فلسطينية مقاومة للاحتلال الإسرائيلي. في 13 يونيو (حزيران) عام 1980 كان العالم المصري المتخصص في هندسة المفاعلات النووية، يحيى المشد، الذي كان يعمل وقتها بالمشروع النووي العراقي، في زيارة إلى العاصمة الفرنسية باريس من أجل اختبار وقود نووي من أجل المفاعل العراقي. في اليوم الذي كان من المقرر له أن يعود إلى العراق، عثرت عليه خادمة في الفندق الذي كان يقيم فيه مطعونًا ومضروبًا حتى الموت.

تقول التقارير وقتها: إن آخر من شاهد الدكتور يحيى كانت عاملة جنس تسمى ماري إكسبريس، والتي قُتلت بدورها بعد أسابيع من الحادث. قيدت الحادثة ضد مجهول، لكن سلسلة من الأحداث التي حدثت بعد ذلك، وقتل فيها اثنان من العلماء العراقيين المتخصصين أيضًا في المفاعلات النووية بحادثتين منفصلتين، جعلت معظم الخبراء يشيرون بأصابع الاتهام إلى الموساد في حادثة مقتل الدكتور يحيى المشد.

حادثة أخرى شهيرة وقعت في أبريل (نيسان) عام 1973 في غارة على شقة في إحدى ضواحي بيروت لبنان. رغم عدم اعتراف إسرائيل بمسئوليتها عن أي من تلك الاغتيالات، إلا أن الكثير من كتب المتخصصين والتقارير الصحافية تنظر إلى مسئولية الموساد عن هذه العمليات كحقيقة مطلقة. في شقة بيروت قامت مجموعة من عملاء الموساد بقتل ثلاثة من القادة السياسيين الفلسطينيين وهم كمال عدوان ومحمد يوسف النجار، وكمال نصار المتحدث الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

4. المخابرات السورية.. أن تتمنى الموت لإيقاف التعذيب
«مستوى التعذيب (في سوريا) لا يمكن مقارنته بأي صراع آخر عملت عليه». هكذا تصنف آنا نيستات، المديرة المساعدة لبرنامج الطوارئ في مؤسسة «هيومن رايتس ووتش»، مستوى التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها المخابرات السورية وبقية الأجهزة الأمنية في نظام بشار الأسد عام 2012.

المخابرات السورية والتعذيب الممنهج
أصدرت مؤسسة «هيومن رايتس ووتش» تقريرًا مكونًا من 81 صفحة، عن الأوضاع اللاإنسانية التي يعيشها المعتقلون في السجون السرية التي تديرها أجهزة المخابرات السورية، والتي تجرب بين جنباتها أشد أنواع التعذيب التي فاجأت مسئولين في المؤسسة الحقوقية الشهيرة. رصد التقرير بعد إجراء أكثر من 200 مقابلة أجرتها المؤسسة منذ بداية اندلاع المظاهرات المعارضة للحكومة السورية في مارس (آذار) 2011، خرائط تحدد مواقع الاحتجاز والتعذيب، وشهادات مسجلة من أشخاص تعرضوا للتعذيب الوحشي، إضافة إلى رسومات توضيحية لأنواع وطرق التعذيب التي تعرض لها هؤلاء المعتقلين على يد أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد.

Embed from Getty Images

معرض لصور ضحايا التعذيب داخل السجون السرية للنظام السوري، تم تسريبها بواسطة أحد موظفي النظام السوري.

يحكي المعتقلون على يد أجهزة الاستخبارات السورية أشكالًا وألوانًا من التعذيب قد لا تخطر على بال أحد قبل أن يسمع عنها، فالكثير من الشهادات المتشابهة تحكي عن أنواع من التعذيب يتم انتهاجها بشكل شبه منتظم على الكثير من السجناء. بعضهم يحكي عن الضرب المبرح لمدد طويلة باستخدام أدوات صلبة مثل العصي أو الأسلاك، ويروي آخرون عن تعليقهم في أوضاع مجهدة ومؤلمة لمدد زمنية طويلة مع صعقهم المتكرر بالكهرباء، وإحراق جلودهم بسائل حامض (أسيد)، إضافة إلى الاعتداء والإذلال الجنسي، وانتزاع الأظفار بكماشات مخصصة لهذا الغرض.

الأطفال ليسوا استثناءً عندما يتعلق الأمر بالتعذيب

حسام، طفل سوري، يحكي لصحيفة «جلوبال بوست» طريقة التعذيب التي تعرض لها في سجون النظام السوري. المصدر

يحكي أحد السجناء الطريقة التي تم تعذيبه بها قائلًا: «علقني الحراس من معصمي في السقف لمدة ثمانية أيام. وبعد أيام قليلة من التعليق والحرمان من النوم صرت أشعر بأن عقلي توقف عن العمل، وبدأت أتخيل أشياء. تورمت قدماي في اليوم الثالث، وكنت أشعر بألم لم أشعر به في حياتي كلها. كان الألم شديدًا، وكنت أصرخ بأنني في حاجة للذهاب إلى المستشفى، لكن الحراس اكتفوا بالضحك علي».

في إحدى المقابلات، يحكي ضابط مخابرات سابق لـ«هيومن رايتس ووتش» إحدى الطرق الاعتيادية التي تستخدمها أجهزة المخابرات في تعذيب المعتقلين ويسمونها «الموت الوهمي»، يقول: «كانوا يضعون الناس في النعوش ويهددون بقتلهم ويغلقون النعش»، وتعد هذه الطريقة إحدى أسوأ الطرق التي تحدث عنها المعتقلون، والتي كانت تسبب حالات من الصدمات النفسية التي لا تترك أصحابها مدى الحياة.

بدورها، نشرت مؤسسة «منظمة العفو الدولية» تقريرًا عن الانتهاكات «المنظمة» التي يتعرض لها المعتقلون في السجون السورية، والتي تعيد إلى الأذهان حقبة التعذيب الأسوأ في التاريخ السوري الحديث بين حقبتي السبعينات والثمانينات. يرصد التقرير انتهاكات حكاها معتقلون سابقين في السجون السرية؛ والتي يمكن تلخيصها في 31 طريقة للتعذيب استخدمتها أجهزة الأمن السورية. ينقل التقرير الكثير من القصص التي تكررت في المقابلات التي أجرتها المؤسسة.

يحكي كريم 18 عامًا، والذي تم القبض عليه في درعا عام 2011، أن المحققين التابعين لمخابرات القوات الجوية قد استخدموا «كماشة» لقص اللحم من ساقيه أثناء التعذيب. ويحكي طارق، معتقل سابق، أن المحققين التابعين للمخابرات الحربية في مدينة كفر سوسة قد أجبروه على مشاهدة عملية اغتصاب لمعتقل آخر اسمه خالد.

يقول طارق في تفاصيل القصة التي لن يستطيع انتزاعها من عقله: «لقد أنزلوا بنطاله، وقد كان مصابًا في أعلى ساقه اليسرى. قام المسئول الأمني باغتصابه على الحائط، بينما يبكي خالد، ويضرب رأسه في الحائط». على الجانب الآخر لم يكن الأطفال في مأمن من عمليات التعذيب المنهجي التي شهدتها السجون السورية عقب اندلاع المظاهرات المناهضة لحكومة الرئيس بشار الأسد؛ وذلك نتيجة اعتقاد القوات الأمنية السورية بأن الأطفال يمكن أن «ينهاروا بسهولة ويمنحوا المحققين أسماء المعارضين». تعرض الأطفال نتيجة هذه النظرية إلى انتهاكات كبيرة وممنهجة رصدتها تقارير منظمات مختلفة حول العالم.

5. «سي آي إيه».. تاريخ مفزع توجته أحداث سبتمبر 2011
عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ألقت الولايات المتحدة كتاب حقوق الإنسان خلف ظهرها وبدأت صفحة جديدة في التعامل مع التهديدات المحتملة، لا ترتكن هذه الصفحة إلى أي من القيود الأخلاقية أو القانونية، بل ترتكن فقط إلى ما يمكن اعتباره «خطرًا» على أمن الولايات المتحدة الأمريكية. ونظرًا للقواعد الرقابية الخاصة بالسياسة الداخلية الأمريكية، كان لابد من إصدار مرسوم خاص من رأس الدول يصبغ كل ما ستقوم به أجهزة التحقيقات الأمريكية بصبغة قانونية، ولو مزيفة، فكان القرار التنفيذي المثير للجدل من الرئيس الأمريكي، جورج بوش، الذي اعتبر خلاله أن «أعضاء القاعدة، وطالبان، والقوى المرتبطة بها هي عدو غير شرعي لا يحق له الحصول على الحماية التي توفرها اتفاقية جنيف الثالثة لأسرى الحرب».

ترامب يدعم فلسفة التعذيب
كان إعلان الرئيس الحالي للولايات المتحدة ترشيحه لجينا هاسبل لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية حادثة أعادت للأذهان الممارسات التي أقدمت عليها الوكالة في عصر الرئيس جورج بوش، وكانت الإرهاصات الأولى لهذا الخطوة قد ظهرت أثناء الانتخابات الأمريكية؛ عندما صرح المرشح الرئاسي وقتها، دونالد ترامب، أن «التعذيب ينجح»، وأنه يريد من الوكالة إعادة إنتاج الطرق التي توقفت الوكالة عن استخدامها منذ عقد كامل، مثل الإيحاء بالغرق، وما هو أسوأ من ذلك.

كانت وكالة الاستخبارات المركزية في عصر بوش تستخدم الكثير من وسائل التعذيب التي تم توثيقها، ومنها الإيهام بالغرق، والحبس في صندوق بحجم الكفن لعدة أيام، والإعدام الوهمي، إضافة إلى الكثير من الأساليب التي تضمنت العري والتلاعب بالأنظمة الغذائية وخفض درجة حرارة الجسم، وتهدف هذه الأساليب إلى إنهاك المحتجز نفسيًا وعصبيًا إلى درجة الانهيار الكامل.

جينا هاسبل، أثناء حلفانها القسم كمديرة لوكالة الاستخبارات المركزية

بالعودة إلى ما قبل حادثة برجي التجارة العالميين، فإن تاريخ المخابرات الأمريكية لم يكن بالنصوع الذي يتخيله الكثير من الناس في أنحاء العالم للدولة التي دائمًا ما تقول إنها تدافع عن حقوق الإنسان بشكل لا هوادة فيه. يقول جيمس كافالارو، أستاذ كلية الحقوق في جامعة ستانفورد، والذي عمل مفوضًا في لجنة بلدان القارة الأمريكية لحقوق الإنسان: «كشخص قضى الثلاثة عقود الأخيرة في تعزيز والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية في هذا النصف من الكرة الأرضية، لدي وجهة نظر قاتمة للغاية فيما يخص تاريخ وكالة المخابرات المركزية. لقد رأيت وانخرطت في عواقب استخفاف الوكالة القاسي بالكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية في الأمريكتين».

«سي آي إيه» وتأسيس كتيب «دليل التعذيب»
شهدت الخمسينات تركيزًا كبيرًا من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على تطوير علم التعذيب. لم تكتف الوكالة بتطوير هذه الأساليب التي تضمنت تجارب سرية على المواطنين الأمريكيين، كما تضمنت أحيانًا استخدام عقار «LSD» لإنتاج «مصل الحقيقة»، لكنها حرصت كذلك على نشره بين الحكومات الحليفة في أنحاء العالم. شمل كتاب الأسلوب الذي طورته وكالة الاستخبارات المركزية الكثير من طرق التعذيب المدعومة بالتجارب والأبحاث لتحقيق أكبر مستويات من الألم على الإطلاق. كان من بين هذه الطرق استخدام التيارات الكهربائية لإلحاق الألم بالمحتجزين.

في عام 1994، تم الكشف عن كتيب الـ «CIA» الخاص لتدريب المحققين الجدد على الأساليب البدائية لإجراء التحقيقات، وهو الكتيب الذي نشرته الوكالة بين الحكومات الحليفة في العالم. سمي الكتيب «KUBARK» وقد أنتجته الوكالة عام 1964 أثناء حرب فيتنام، وكان الهدف منه توثيق الطرق التي اعتمدتها الوكالة في السنوات السابقة على تكوين الكتيب، والتي ستستخدم لاحقًا في العراق وأفغانستان وكوبا وخليج جوانتانمو، وكل الطرق والأساليب الموجودة بالكتيب تعتمد على أبحاث صلبة قامت بها الوكالة لاعتماد هذه الأساليب الخاصة. تضمن الكتاب الكثير والكثير من أساليب التعذيب الخاصة. كانت أشهر هذه الأساليب المذكورة في الكتيب:«الحرمان الحسي» و«الحد الأدنى من الخبز والماء» و«التحكم بالضوء» و«الصمت القسري».

«التعذيب النفسي».. دليل قواعد التعذيب الفعالة للمبتدئين
يعتمد كتيب وكالة الاستخبارات المركزية على ركيزة أساسية توصلت إليها الأبحاث المتعددة التي أجرتها الوكالة، وهي أن الطرق المثلى لاستخراج المعلومات من المحتجزين هي التعذيب النفسي، وليس من خلال التعذيب الجسدي. تتضمن هذه النوعية من طرق التعذيب الحرمان من المشاهد الاعتيادية للمحتجز، وكذلك الأصوات والروائح والنكهات المعتادة، والاستبدال بها جميعًا حاسة اللمس فقط كطريقة أساسية للتسبب في الإجهاد النفسي والعصبي. يرسي الكتيب في نفس السياق قاعدة مهمة للمحققين وهي أن التهديد بإلحاق الألم يمكن أن يثير مخاوف تتسبب في ضرر وتدمير نفسي أكبر مما يسببه الشعور الوقتي بالألم. كذلك يقر الكتيب أن التعذيب البدني المباشر يخلق مشاعر العداء والتحدي والاعترافات المزيفة، ولا يخلق أي منافع حقيقية.

 

التعليقات معطلة.