قبيل حلول شهر رمضان بأيام معدودة، ينهمك مصطفى جوهر رفقة مجموعة من السودانيين بحي السادس من أكتوبر في الإعداد لتقليد البِرِش العتيد، وهو عادة حُملت من ريف السودان ومدنه إلى القاهرة؛ حيث يخرج السودانيون للإفطار في الشارع، من أول أيام الشهر إلى مثل هذا اليوم، وقفة عيد الفطر.
تشير تسمية البِرِش إلى مفارش السعف، وهي منتجات يدوية تصنعها المرأة السودانية من سعف النخيل، وفي أيّامنا هذه حلّ السجاد الحديث محلّ البِرِش التقليدي، إذ يُفرش في شكل مستقيم توضع عليه الأطعمة، وحول البِرِش يجلس الصائمون استعداداً للإفطار.
تقليد أصيل
لاقت العادة السودانية إعجاب المصريين وتفاعلهم، حتى أنهم اشتركوا مع أشقائهم السودانيين، على ما يقول جوهر، وهو نائب رئيس ما يعرف بالمجلس الأعلى للجالية السودانية في مصر.
ويوضح جوهر لـ”النهار العربي” أنّ “البِرِش عادة شعبية تنتشر بصورة واضحة في الريف والمدن السودانية في شهر رمضان المبارك”، لافتاً إلى أن جميع السودانيين من المسلمين والمسيحيين يشاركون في هذه العادة.
وعن طقوسها يقول: “قبل رمضان بنحو ثلاثة أيّام، يبدأ الإعداد للبِرِش، إذ يتشارك كل شارع في الإعداد للأمر، ويكون هناك صندوق تجمع فيه بعض الأموال، وتديره سيدتان؛ لشراء مستلزمات المشاريب من عصائر رمضانية، وشاي وغيره من مشروبات، إلى جانب ابتياع الأدوات اللازمة لهذا الغرض، وتوضع هذه الأدوات في بيت بعينه، يتناوب عليه سيدات الشارع لإعداد المشروبات، وفقاً لجدول وضع مسبقاً، يحدد مواعيده كل سيدة تقوم بهذه المهمة”.
في المعتاد كل بيت سوداني يشارك في البِرِش يقدم أطعمة حسب قدراته، وتوضع المأكولات فوق البِرِش المفروش على الأرض، وما يميز هذا الطقس عن موائد الرحمن، أنّ مختلف الطبقات الاجتماعية تشارك فيه، ويأكل الجميع في الوقت نفسه من دون تمييز.
ينتشر تقليد البِرِش السوداني في شوارع العاصمة المصرية
ويقول جوهر إنّ “أجدادنا سنّوا هذه العادة من أجل “الغاشي” و”الماشي”، وتعني كلمة “الغاشي” الضيوف الذين يأتون للزيارة من دون موعد مسبق فيكون البِرِش مفتوحاً لهم للإفطار، أما مفردة “الماشي” فتشير للمسافرين، حيث يستوقف منظمو البِرِش في الشوارع الرئيسية المسافرين للإفطار”.
ومن المشاهد اللافتة في توقيف المسافرين للإفطار في البِرِش، يقوم الرجال بفك العمَم القماشية التي تعتمرها رؤوسهم، ويقومون بربط كل طرف عمّة بالأخرى لتشكل ما يشبه الحبل الطويل، ويمسك شخصان بطرفي قماش العمَم الذي يمتد بعرض الطريق ليقطعه أمام السيارات، ويُدعى مستقلّوها للإفطار، ولا يجدر بهم الرفض، وفقاً للتقاليد السودانية.
وبعد موجات اللجوء السوداني إلى مصر في أعقاب الحرب الدائرة في السودان منذ نحو سنة، بات ينتشر هذا التقليد في عدد من أحياء العاصمة المصرية، ومن أكثرها حضوراً منطقة 6 أكتوبر، حيث أسّس مصطفى جوهر رفقة عدد من السودانيين نادياً يجمع أبناء الجالية.
وكذلك يمكن رؤية البِرِش بوضوح في حي المهندسين، وفيصل والهرم، ومنطقة عابدين بوسط البلد. لكنّ جوهر يشير إلى أنّ تقليد البِرِش ليس جديداً في مصر؛ فقبل التوافد الكثيف للسودانيين في الآونة الأخيرة، اعتاد السودانيون المقيمون في منطقة عين شمس على تنظيم البِرِش في شهر رمضان من كل عام.
طعام صانعات البِرِش
ثمّة جنديات مجهولات خلف طقس البِرِش السوداني، فالنساء هنّ من يجهّزن الطعام. وتقول الباحثة الاقتصادية السودانية الدكتورة سامية الدويحي، إنّ الظاهرة السودانية التي ملأت شوارع القاهرة ومحافظات مصر في شهر رمضان كان لها صدى لافت في الشارع المصري والإعلام.
وتشير لـ”النهار العربي” إلى أنّ “عادة الإفطار على الطرقات والممرات والشوارع، تعود للثقافة الإسلامية، ويحقق فيها السودانيون معاني التراحم والتآزر”. وعن دور النساء في الإعداد للبِرِش تقول إنّ “العادة جرت على إفطار الرجل السوداني في الشارع، لذا تجهز المرأة يومياً صينية الشارع، التي تحفل بالمأكولات والعصائر”.
لكن عند تنظيم إفطار جماعي ليوم واحد، سواء كان في الحي، أو في مصلحة العمل، أو حتى إفطار أسري، ترى النسوة يشكّلن خلية نحل، وتُوزع الأدوار فمنهنّ من تنبري لإعداد العصائر، وأخريات يجهّزن الوجبات، وبعضهن يحضّرن الشاي والقهوة.
وتحفل مائدة البِرِش بأطعمة أهل السودان، إذ تطهو النسوة أصنافاً محددة يومياً طوال شهر رمضان؛ فأهل الشمال والشرق والوسط يشتهرون بطبق القراصة بالدمعة، أو الملاح المفروك، وهو شبيه بطبق البامية المصري، تبعاً لما تقول الدويحي.
وتتابع: “أمّا أهل الغرب والجنوب، فلديهم طبق العصيدة بالملاح حسب الأكلات الشعبية التي تميز القبائل بعضها عن البعض الآخر، وتشترك جميع القبائل السودانية في طبق البليلة العدسية مع البلح، بينما ثمة من يحضر الطعمية والفول والسمبوسة يومياً، مع سلطة الزبادي بالخيار”.
بخصوص المشروبات الساخنة مع الإفطار، تقول الباحثة الاقتصادية إن “البعض يتناول مشروب الذرة الدافئ، ويسمى بالنشاء، وهناك أيضاً شوربة خضار لحمة عدس، أمّا العصائر والمشروبات الباردة، فالشعب السوداني اشتهر بمشروب الآبري وهو مشروب قومي، وثمّة نوعان منه؛ الأحمر ويعرف بالحلو مر، والأبيض ويسمى آبري أبيض، كما أن هناك عصائر أخرى كعصير التبلدي والكركدي والدوم”.
وفي ختام حديثها تفتخر الدكتورة سامية الدويحي بسودانيتها وبممارستها العديد من العادات والتقاليد الإيجابية والمميزة، إذ ترى أنها بذلك تحافظ على تراثها الثقافي الشعبي الذي يميز السودانيين من بين الشعوب.