ثقافيه

“موت إمبيدوكليس” من الفلسفة والأسطورة إلى السينما والشعر

معلم أفلاطون الصقلي نسب إليه أرسطو اختراع الفصاحة واستولت الحكايات على موته

إبراهيم العريس باحث وكاتب  

الشاعر الألماني فردريش هولدرلن (غيتي)

ما من فيلسوف من العهد الما قبل سقراطي عاش بعد موته أكثر كثيراً مما عاش في حياته، بمعنى أنه تحول إلى أسطورة عاشت وخلدت، بدءاً من موته، وصولاً إلى مكانة من الصعب تصور الكيفية التي بها نسبت إليه.

ولقد بدأ ذلك التحول مع أرسطو الذي نسب إليه، وربما دون تمحيص، وفي الأقل بحسب يوجين اللايرسي، مبتكرات فكرية كثيرة، منها “اختراع” الفصاحة، مروراً بالأفلاطونيين الجدد الذين مزجوا بين أساطير حياته وأسطورة موته الكبرى ليعتبروه مع مواطنه الصقلي هو الآخر، فيثاغورس، المعلمين الحقيقيين والكبيرين لأفلاطون نفسه، وصولاً إلى الشاعر الألماني “التنويري” هولدرلن الذي، شعرياً ومستبقاً في ذلك هايدغر الذي عقلن سيرة الرجل وفكره بأفضل ما يكون، اهتم بموت إمبيدوكليس في قصيدته التي لم تكتمل أبداً “موت إمبيدوكليس”، ومع ذلك بنى عليها كثر في زمننا المعاصر إبداعات شعرية، وحتى سينمائية، تستلهم أسطورة موته عند جبل إتنا في صقلية، حيث حين مات هناك اعتقد الناس، بحسب اللايرسي، أن جسده قد اختفى وتحول إلى إله خالد.

ومع ذلك، حدث ذات يوم أن ألقى البركان أحد حذاءيه البرونزيين، كاشفاً عن الخداع، في حين تؤكد أسطورة أخرى أنه ألقى بنفسه في البركان ليثبت لتلاميذه أنه خالد، حيث كان يعتقد أنه سيعود كإله بعد أن تلتهمه النار، كما تحدث عنه لوكريتيوسبحماس. ومن الواضح أنه نظر إليه كنموذج له.

كما أن اللاتيني هوراس يشير أيضاً إلى وفاة إمبيدوكليس في “فن الشعر” معترفاً للشعراء بالحق في تدمير أنفسهم. ومهما يكن من أمر فإننا سنكتفي بهذا القدر مما حيك حول هذا الفيلسوف الغامض لنتوقف عند كون “موت إمبيدوكليس” موضوع مسرحية فردريش هولدرلن الحاملة العنون نفسه، وكانت فاتحة لاهتمام متجدد بسيرة وموت الفيلسوف تتابعت لدى ماثيو آرنولد. دون أن ننسين هنا أن الثنائي السينمائي جان ماري ستروب ودانيال هوييه عالجا الموضوع في فيلم حمل العنوان نفسه واشتهر بكونه نخبوياً إلى أبعد حدود أمكن النخبوية أن تصل إليه.

بين المسرحية وتفسيرها

على أية حال تعد مسرحية “موت إمبيدوكليس” الشعرية من أكثر نصوص هولدرلن شهرة بحيث لا يفوقه شهرة سوى النص الذي كتبه تعليقاً على تلك المسرحية التي أعاد كتابتها ثلاث مرات خلال سنوات عدة، لكنها مع ذلك لم تكتمل أبداً،إذ في كل مرة كان هولدرلن يصل إلى نقطة معينة من المسرحية ويريد أن يتجاوزها، يقف تاركاً العمل جانباً، ليستأنفه بعد حين ثم ليتوقف مرة أخرى. وهكذا بقيت المسرحية غير مكتملة، وإن كانت بالصيغة التي وصلت إليها، تعد من أجمل مسرحيات هذا الشاعر.

هنا لا بد أن نذكر بداية أن “موت إمبيدوكليس” استعار هولدرلن موضوعها من كتاب ديوجين اللايرسي حول حياة الفلاسفة والكتاب القدامى. ولعل الدافع الأول الذي حدا بالشاعر الألماني الذي عاش بين القرنين 17 و18 إلى كتابة هذه المسرحية، إنما كان انبهاره الكبير بالعالم الإغريقي القديم، وبمفكري هذا العالم وتقاليده.

ونحن نعرف أن إمبيدوكليس كان من أوائل المفكرين العقلانيين الذين أقاموا فلسفتهم على أساس توحد الإنسان والطبيعة. ونعرف كذلك أن إمبيدوكليس مات انتحاراً. وثمة في التقاليد القديمة حكاية تقول إن انتحر بأن ألقى بنفسه من فوهة بركان الإتنا، احتجاجاً على عدم إيمان الشعب بتعاليمه وأفكاره الحلولية هذه، وأملاً في أن يؤدي موته على تلك الشاكلة إلى لفت نظر الشعب إلى تلك الأفكار.

أما بالنسبة إلى هولدرلن، فإن الموضوع يتجاوز مسألة الحلولية بين الإنسان والطبيعة، لأن إمبيدوكليس تجاوز هذا البعد ليعلن نفسه انطلاقاً منه سيد الكون في زمن كان الإنسان، قبل مجيء الأديان التوحيدية، لا يزال يبحث عن آلهة تجيبه عن أسئلة الوجود والحياة. بالنسبة إلى إمبيدوكليس كان الجواب عنده، ويتعلق تحديداً بالاتحاد المتناغم بين الإنسان والطبيعة في معنى أن موت الإنسان لا يعني أكثر من عودته الموقتة إلى حضن الطبيعة الأم واندماجه فيها، بعد أن كانت الطبيعة تمظهرت في شكل موقت على صورة ذلك الكائن البشري الذي كان عليه قبل أن يموت.

بحث عن نهاية منطقية

قد لا يكون الاختلاف كبيراً بين الطرحين. ومع هذا لم يفت الأمر أن يشكل حقاً على هولدرلن الذي حاول في المرات الثلاث التي انكب فيها على كتابة المسرحية وإعادة كتابتها (في السنوات 1797 و1798 و1800)، أن يوصل “مأساة” إمبيدوكليس إلى نهاية منطقية فعجز. وربما يجوز هنا أن نفتح هلالين لنقول إن هولدرلن في عام 1801، وبعد عام من فشله الثالث في إتمام “موت إمبيدوكليس” عاد إلى عالم الإغريق ثانية، ولكن هذه المرة في قصيدة له اشتهرت لاحقاً عنوانها “الخبز والنبيذ”، نبذ فيها ما كان اعتاده الرومانسيون من بكاء على أطلال الماضي، كي يعلن إيمانه بالمقبل الذي سيولد من رحم الحاضر كاستكمال للمسار التاريخي للكون، حتى اللحظة التي تتم فيها معجزة التحام الليل بالنهار.

ومن الواضح أن ما أراد هولدرلن قوله في هذه القصيدة إنما كان دعوة الإنسان للعودة إلى الإيمان. وهي الفكرة التي لطالما أراد التعبير عنها من خلال مسرحيته عن إمبيدوكليس، ففشل. ونعود هنا إلى المسرحية التي ستقدم مرات ومرات بعد توقف هولدرلن عن كتابتها، ودائماً ناقصة لا تكتمل، بل في أحيان بأشكال موسيقية، ثم لاحقاً خلال النصف الأخير من القرن العشرين في شكل سينمائي، حين حولت إلى فيلم تجريبي له مكانته في تاريخ السينما الهامشية.

سلوك درب العدم

إذاً، مسرحية “موت إمبيدوكليس” التي كتب هولدرلن صيغها الثلاث وهو في أواسط عمره ومساره الإبداعي، كانت في الأصل عملاً فكرياً يستند إلى ما رواه ديوجين عن حياة وانتحار ذلك الفيلسوف الذي عاش خلال القرن الخامس قبل السيد المسيح. الانتحار الذي يبدو لنا أشبه بالفداء منه بسلوك درب العدم، ذلك أن إمبيدوكليس إذ انتحر، لم يكن يتوخى التعبير عن يأسه، بقدر ما كان يتوخى إيقاظ الناس، ودفعهم من خلال تأمل ما قام به إلى البحث بأنفسهم عن الإجابات التي لم يتمكن هو من العثور عليها.

وعلى هذا النحو يمكننا في مسرحية هولدرلن هذه أن نقيم تماثلاً واضحاً بين شخصية إمبيدوكليس وشخصية أنطيغونا. فهو مثلها جعل للأخلاق مكانة تسمو على السلطة والقوة، مصوراً في طريقه أن السعي الأفضل والأجدى والأشرف كذلك للدنو من الألوهية، إنما يكمن في مجابهة الموت.

ومن هنا لا تعود مسألة دنو الفيلسوف من تصوره للألوهية فعل جنون أو غرور واستعلاء على البشرية، بل فعل فداء وتضحية يطلب عن البشرية الاقتداء بالفادي. وواضح هنا أن سبب توقف هولدرلن عن استكمال هذه المسرحية، إنما له علاقة مباشرة بعدم قدرته على الوصول مع منطقه إلى نهايته. فالجزء الذي كتبه من المسرحية يطرح السؤال ويرى الطريق للوصول إلى الجواب الوجودي الأساس، غير أنه حين يخيل إليه أن الجواب أصبح في متناوله، يتراجع ليس لأنه لا يرى أن من واجب الفن الوصول إلى إجابات، بل لأن الجواب المنطقي الوحيد، إن عبر عنه، سيكون كافياً لتدميره شخصياً، إذ في مثل هذه الحال، سيتساءل القارئ أو المتفرج: كيف تعطينا، إذاً، مثالاً، أنت، كإنسان معاصر، عاجز عن اتباعه طالما أن الأسئلة نفسها تقلقك وتخيفك؟

ولم يتحدث الشاعر إلا عن ذاته

من هنا يمكن النظر إلى مسرحية “موت إمبيدوكليس” على أنها من أكثر أعمال فردريش هولدرلن (1770 – 1843) ذاتية، حتى وإن كان هذا الكاتب الذي أمضى حياته في كنف ورعاية أمه واجداً من الصعوبة عليه بمكان التأقلم تماماً مع العالم الخارجي، كتب معظم أعماله انطلاقاً من ذاته الملتهبة.

وهولدرلن درس اللاهوت باكراً في توبنغن، لكنه استنكف عن الدخول في سلك رجال الدين، بل فضل أن يمتهن مهنة تدريس أولاد الأثرياء، ثم عمل في رعاية صاحب مصرف عشق زوجته وكتب عنها نصوصاً عدة. وهو بعد أن عاش في بوردو الفرنسية زمناً عاد لألمانيا سيراً على الأقدام لتظهر عليه من العام 1802 بوادر اضطراب عقلي رافقته من عام 1807 حتى رحيله، ولكنه مع هذا كتب خلال سنوات جنونه الأولى عدداً من النصوص وترجم “أنطيغونا”. أما أشهر أعماله فتبقى قصائده ورواية “هيبريون” ثم “موت إمبيدوكليس”.