عالمية

ميركل.. المرأة التي أرادت أن يقرأ عنها الاطفال في كتب التاريخ

تقارير |   10:39 – 26/09/2021

متابعة – موازين نيوز
ربما سيقرأ الأطفال الألمان، عن أنجيلا ميركل، بعد 50 عاماً من اليوم، أنها “المستشارة التي حاولت”، كما أعربت مرّة عن رغبتها بأن تُذكر في كتب التاريخ.
فالمستشارة الألمانية، التي ترعرعت في السياسة على أنقاض الحرب الباردة، وبزغ نجمها بعد انهيار جدار برلين، بعدما نما حسّها الوطني في ألمانيا الشرقية، ظلّت طوال 16 عاماً في السلطة، وخصوصاً خلال الأعوام الأخيرة، ترفض الحديث عمّا يسمى بالإرث الذي ستتركه، وهو إرث حمل ثلاثة عقود، احتاجت ميركل إلى نصفها للوصول إلى أعلى الهرم.
وقد ترفض ميركل، المستشارة السيدة الأولى في عهد ألمانيا، ومن ألمانيا الشرقية، الخوض في إرثها، تحديداً لأنه جدلي، أو لأن النجاح فيه ظلّ “ناقصاً”.
فصاحبة الألقاب الكثيرة، من “صاحبة الهرم المقلوب” (في إشارة إلى حركة يديها عند كل مرة تقف فيها وكأنّ كفيّها تصنعان هرماً مقلوباً)، إلى “الأم ميركل”، إلى “ملكة أوروبا”، إلى “سيّدة ألمانيا الحديدية”، وهو لقب لم تحبّه، إلى “مستشارة المناخ” (التي لم تف بكل وعودها على صعيد البيئة)، أدارت السياسة الداخلية والخارجية لبلادها، وفق المؤرخين لسيرتها، من منظور علمي، ربطاً بسيرتها الأكاديمية كفيزيائية، وعرفت بالقيادة كمديرة للأزمات الكبرى، وذات نظرة براغماتية، تميل إلى الوسطية واجتراح الحلول الوسطى، وليس كقائدة صاحبة رؤية.
تغادر ميركل منصبها تاركة اتحاداً أوروبياً ينوء تحت أزمات وتحديات من مختلف المشارب، وقد يكون الاتحاد الأوروبي، الذي حضرت فيه المستشارة مائة قمّة أوروبية، واختبرت العمل مع زعماء أوروبيين، متحمسين ومتطرفين حتى، أكثر من افتقر لتلك الرؤية المستقبلية، خلال فترة منصبها.
فعلى الرغم من دورها الحاسم في إنقاذ منطقة اليورو، وتمكنها مع فرنسا من إدارة مرحلة الخروج البريطاني من الاتحاد بأقل الخسائر للكتلة الأوروبية، ووجهها “الإنساني” الذي جعل أوروبا أكثر انفتاحاً، إلا أن ميركل تغادر اليوم منصبها، تاركة اتحاداً أوروبياً، ينوء تحت أزمات وتحديات من مختلف المشارب، كشفتها خصوصاً أزمة كورونا والعلاقة مع الولايات المتحدة.
وفيما عاصرت ميركل في سنواتها الأخيرة بالمنصب، خضّة النظام العالمي، وصولاً إلى عهد دونالد ترامب في الولايات المتحدة، والخروج الأميركي من أفغانستان، تمسكت المستشارة، بالحلف العابر للأطلسي، لكنها فتحت نافذة كبيرة للحوار مع روسيا والصين، وفق النظرة البراغماتية ذاتها والمصالح المشتركة، وهو ما جعلها مراراً في موقف متباين مع واشنطن.
وفيما تغادر المستشارة منصبها، بإرادتها، بعدما أعلنت اعتزال السياسة من بابها الرسمي، لا يبدو حزب ميركل اليوم، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في عصره الذهبي، وسط خشية من أن تخبو الثقة التي ضخّتها المستشارة في نفوس الألمان، لناحية قوة بلادهم السياسية والاقتصادية، حيث تظهر استطلاعات الرأي أن نسبة كبيرة منهم يعتريها الخوف على مستقبل البلاد من بعدها.
من هي أنجيلا ميركل؟ وكيف سطع نجمها من ألمانيا الشرقية، لتهيمن وسط “قطيع الذئاب” الذكور في السياسة الألمانية؟ 
ولدت أنجيلا دورثيا كاسنر، في تموز عام 1954، في مدينة هامبورغ، في ألمانيا الغربية.
والدها، هورست كاسنر كان قسّاً في الكنيسة اللوثرية، ووالدتها هيرليند غينتش، معلمة للغتين الإنكليزية واللاتينية، وانتقلا مع العائلة في عام 1957 إلى مدينة تمبلن، في ألمانيا الشرقية الشيوعية، حيث نشأت ميركل وكبرت، خلال فترة الحرب الباردة.
رفضت ميركل لاحقاً، بعد دخولها المعترك السياسي، كل ما قيل عن أنها كانت متحمسة خلال مراهقتها للحكم الشيوعي.
الشيء الأكيد المعروف عنها خلال تلك الفترة، كان عضويتها في الكشّافة الألمانية الشرقية، وتشجيعها فريق ألمانيا الشرقية لكرة القدم، الذي فاز في عام 1974 على ألمانيا الغربية.
لم تؤثر نشأة ميركل، خلف “الستار الحديدي”، في فهم ما يدور حولها، وخصوصاً أنها جابت المعسكر الشرقي بعد التحاقها بجامعة لايبزغ في عام 1973 لدراسة الفيزياء، وعلى الرغم من تجنيب والديها لها، الخوض في سياسة الحكم الشرقي.
وأثارت موهبتها العلمية، وإجادتها اللغة الروسية (هي من أصول بولندية وبروسية لناحية والدها) واطلاعها على ما يدور في المعسكر الشرقي، انتباه “الشيوعي الحاكم”، ما دفع جهاز الاستخبارات الشرقي الألماني، شتازي، لمحاولة تجنيد أنجيلا كاسنر للعمل لديه كمخبرة، لكن تظاهرها بالسذاجة السياسية جعلها تُترك لحال سبيلها.
خلال تلك الفترة، سُمح لها بزيارة وحيدة إلى مسقط رأسها، هامبورغ، لحضور زواج أحد الأقارب، عام 1986، وهو عام تخرجها من الجامعة.
تزوجت ميركل في عام 1977، زميلها الطالب أولريش ميركل، لتكتسب كنيتها التي عرفت بها لاحقاً.
وبعد ذلك بسنوات، انفصلت عنه، لتتزوج أستاذ الفيزياء يواكيم سوير، وهو زوجها الحالي. في خطاب لها في جامعة هارفرد، قبل عامين، قالت ميركل إن “جدار برلين، قلّص الفرص أمامي.
لقد وقف في طريقي، عندما انهار، فتح الباب فجأة، بالنسبة لي، أيضاً، رأيت أنه حان الوقت لأعبر من هذا الباب”.
بعد انهيار جدار برلين، في عام 1989، دخلت ميركل الحياة السياسية من بوابة انضمامها إلى حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” المحافظ، والذي كان يهيمن عليه الرجال.
عام 1990، انتخبت نائبة في الـ”بوندستاغ” (البرلمان الألماني)، لتكون في عام 1991 (كانت بعمر 36 عاماً)، على موعد مع أول منصب وزاري لها، وذلك في حكومة مستشار “الوحدة”، ومثلها الأعلى، الراحل هلموت كول، فقادت وزارة المرأة والشباب (وأصبحت نائبة رئيس الحزب)، ثم وزارة البيئة، قبل أن تصعد إلى قمة الهرم للحزب.
انضمت ميركل إلى حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” المحافظ، وكان عرّابها هلموت كول.
وجد هلموت كول، الذي كان يسعى إلى ترسيخ الوحدة الألمانية، في ميركل، ضالته، حيث أصبحت تعرف بـ”فتاة هلموت كول”، الذي حملها إلى الصفوف الأمامية، طامحاً لكسب الألمان الشرقيين إلى جانبه.
لكن سنوات العسل بين ميركل وعرّابها منيت بضربة قوية جرّاء “فضيحة تبرع تمويل” حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في انتخابات 1998، والتي ستنتهي في عام 1999 بهزّة في قيادة الحزب، بعد رفض المستشار الأسبق ورئيس الحزب هلموت كول، الإفصاح عن أسماء المتبرعين، ما تسبب بانتقادات وأضرار للحزب المحافظ.
في تلك اللحظة، قفزت ميركل من سفينة المستشار، مطالبة حزبها بالتخلي عنه، ومخاطرة بمستقبلها السياسي، بنشرها رسالة في صحيفة “فرانكفورتر أليغماينه زايتونغ” في 21 كانون الأول من ذلك العام، تطالب بذلك.
وكما روت لاحقاً، فقد مرّت ميركل في ذلك الوقت، بمرحلة عصيبة، لا سيما مع وجود منافسين أقوياء لها من رجال الحزب المتربصين بها، والذين اعتبروا رسالتها العلنية خطأ تاريخياً سيضّر بحزبهم.
ومنذ ذلك الوقت، بدأت ميركل تعرف بتحديها ذكور “قطيع الذئاب المهيمنة” في قيادة “الديمقراطي المسيحي” (والذين عرفوا في الصحافة الألمانية بحلف الأنديز، وهم: غونتر أويتنغر، بيتر مولر، رولاند كوخ، وكريستيان وولف).
في كتابه عن سيرتها الذاتية، ذهب الصحافي الألماني، رالف بولمان، خلف كواليس الصراع الذي خاضته ميركل منذ 32 سنة، ومنذ نحو 16 سنة في منصب المستشارية، مع الحرس القديم في حزبي “الاتحاد الديمقراطي المسيحي”، وشقيقه البافاري “الاتحاد الاجتماعي المسيحي”. 
فمنذ تزعمها الحزب عام 2000، انتهجت ميركل تكتيكات عدة لتدعيم مكانتها في صفوفه، تاركة انتخابات 2002 في عهدة الحزب الشقيق في بافاريا لتقديم مرشحه إدموند ستويبر، في مواجهة “الاجتماعي الديمقراطي” غيرهارد شرودر.
وكما توقعت ميركل، فقد فشل ستويبر، لتبدأ رحلتها التي شقّت طريقها بتأنٍ ومثابرة، وخصوصاً بعد تحييدها بدهاء “قطيع الذكور المهيمن”، لتخوض في عام 2005 انتصاراً حاسماً لحزبها، ولشخصها في منصب “مستشارة ألمانيا الاتحادية”، الذي ستستمر فيه لـ16 سنة، وهي أطول فترة بعد عرّابها هلموت كول.
شكّل انتقال ميركل إلى مكتب المستشارية الألمانية، غير البعيد عن مبنى “الرايخستاغ” (مبنى البرلمان بالرايخ الألماني) في برلين، عام 2005، لحظة فارقة في التاريخ السياسي الألماني الحديث.
لم تكن التحديات التي تنتظر هذه السيدة بسيطة، لكنها عملت جاهدة لخدمة ألمانيا، محاولة كسر النمطية التي تقول إن “ألمانيا إذا تقدمت كثيراً، فمن السهل إيقاظ أشباح الماضي”، بحسب إحدى سيرها الذاتية.
وكانت الأزمة المالية العالمية، وأزمة الدين في منطقة اليورو، من أولى وأكبر التحديات التي تنتظر المستشارة، حيث كان دورها حاسماً في إنقاذ اليونان من الانهيار المالي الشامل، حين تمكنت من تنفيس الغضب الداخلي بمقولتها الشهيرة: “إذا انهار اليورو، فستنهار أوروبا”.
وقالت ميركل عن تلك الفترة، لاحقاً، إنها كانت أكبر تحدٍ لمستشاريتها، وأهم إنجاز لها.
وتركت أزمة اليونان بصمتها في إرث ميركل، حيث أصبح وجه “أوروبا” الشمالية الغني، والشحيح (أو البخيل) على جيرانه الأوروبيين في الجنوب، إذ دفعت دوله إلى تبني سياسات تقشفية غير مسبوقة.
وبسبب ذلك، ظلّ الشارع اليوناني لفترة طويلة، حاقداً على المستشارة الألمانية، التي فرضت مع النادي الأوروبي شروطاً صارمة على أثينا.
خلال تلك الفترة، شبّه اليونانيون، ميركل، في تظاهراتهم بالزعيم النازي أدولف هتلر، تماماً كما فعلت صحف يونانية عدة.
شكّلت أزمة تدفق اللاجئين، لا سيما من سوريا عبر المتوسط، في عام 2015، التحدي الأكبر الثاني الذي واجه ميركل خلال منصبها.
واعتمدت المستشارة الألمانية، تجاه تلك الأزمة، سياسة منفتحة، جعلت ألمانيا تستقبل حوالي مليون لاجئ، بعد الأزمة التي تسببت بتكدس مئات آلاف اللاجئين العابرين لمسار البلقان.
وقالت ميركل، عبارتها الشهيرة حينها “قادرون على ذلك”، خلال زيارتها لمركز إيواء للاجئين في ألمانيا، في آب من ذلك العام، في محاولة لإقناع الألمان بتوجهها.
لكن هذه السياسة المنفتحة على اللاجئين، كانت سيفاً ذا حدّين في الداخل الألماني، حيث سمحت لليمين المتطرف، بأن يصعد على الساحة المحلية (حزب البديل وحركة “بيغيدا”)، وهي سياسة قسّمت أوروبا أيضاً، التي بدأ اليمين المتطرف فيها يتغذى من موجات اللجوء، ويستغلها في أكثر من بلد، في سلّم صعوده.
ووصل الأمر، إلى اتهام أطراف أوروبية، لميركل بإغراق القارة بالمهاجرين، مع إبداء شارع ألماني وأوروبي شعبوي، غضبه، إلى حدّ وصفه المستشارة بـ”المسلمة” و”الخائنة”.
وكلّف ذلك ميركل وحزبها، تراجع شعبيتهما بانتخابات 2017، وانتخابات ولايات لاحقة.
في السياسة الخارجية، ظلّت ميركل “عميدة الاتحاد الأوروبي”، في الحفاظ على مصالحه.
وتجلى ذلك، خصوصاً، في تعبيرها الصريح مراراً عن معارضتها لسياسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ولم تتوان في عام 2019، عن وصفه بـ”المجنون”.
وقالت ميركل، رداً على سياسات ترامب الانكفائية والانعزالية: “إن الوقت الذي كنا نثق فيه ببعضنا البعض (الأوروبيون والأميركيون) انتهى، وبات علينا نحن الأوروبيين، أن نمسك مصيرنا بأيدينا”.
وتناقل الألمان مقولة إن ميركل كانت على وشك الانسحاب من الحياة السياسية في 2017، إلا أنها اختارت الاستمرار لولاية رابعة، تحديداً بسبب ترامب.
خلال تلك الفترة، اختارت ميركل التقارب مع فرنسا، لإنقاذ القارة الأوروبية من مزاجية الحليف الأميركي، ومحاولة فرضه إنهاء مشروع خط غاز “سيل الشمال 2” مع روسيا.
وتؤشر سياسات عدة، انتهجتها ميركل، بما فيها المناخية ومواجهة كورونا (التي أبدى الألمان رضاهم عنها)، وإدارة الاحتجاجات الداخلية، بالإضافة إلى العلاقة مع روسيا، وتليين اللهجة مع إيران، وغيرها، إلى أن بصمة أنجيلا ميركل، وأثرها في السياسة الألمانية، لن تُمحى سريعاً، خصوصاً أن جيلاً كاملاً من الألمان لم يعرف سواها.
لا تهوى ميركل الصخب، أو الإثارة في الإعلام، وتقضي إجازتها الصيفية في جنوب تيرول، وفي ذات الفندق، بحسب الصحافة الألمانية، التي لم تجد في ميركل ما يثير القارئ، حين كانت تلاحقها في إجازاتها، ولم تجد سوى شخص يكتفي بالتنزه في الجبال وارتياد مسبح عادي.
وبحسب سيرتها الذاتية، كان حلمها خلال فترة شبابها، قيادة سيارة عبر الولايات المتحدة والاستماع إلى أغاني بروس بيرنغستن.
وبعد توحيد ألمانيا، قامت برحلة شخصية واحدة إلى كاليفورنيا.
يحاول صحافيون التكهن بما ستفعله المستشارة بعد تقاعدها، إذ ربما تصبح “أستاذة ضيفة في الولايات المتحدة”، يتكهن البعض.
هي قالت إنها لا تريد للتقاعد أن يحيلها إلى “حطام، أفضل الخروج بشيء جديد عندما أشعر بالملل”.
واحتاجت ميركل إلى 16 عاماً، لتشعر بملل السلطة، فهي التي قالت يوماً بعد رحيل هلموت كول عن السلطة: “لقد تعلّم الحزب أن يمشي لوحده، وأن يثق بنفسه”.
هذا أقلّه ما تريد ميركل أن يقال عنها إنها “حاولت” أن تعلمه للألمان.