نظام عالمي نظيف

1

جودة مرسي:

ظهر التنظيم الدولي الحديث في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، التي أفرزت القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، وفي نهاية ثمانينيات القرن الماضي انهار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى عدة دول لم يبقَ منها دولة كبيرة سوى روسيا، فانفردت أميركا بنفوذ كبير وبسطت سيطرتها على العالم، وفي أعقاب حرب الخليج الثانية استخدم جورج بوش الأب مصطلح “النظام العالمي الجديد” الذي يمنح الهيمنة لبلاده، لكن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسنجر أشار في أحد كتبه عام 2014 إلى أن نظاما عالميا جديدا في طور البناء ويتم تأسيس أركانه وقواعده.
منذ ظهور فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) مطلع هذا العام بتأثيراته الشديدة على القوى العالمية خصوصا الكبرى منها، أصبحت الأنباء الأكثر تداولا بأن الأيام القادمة حُبلى في نظام جديد سيرى النور عقب انتهاء أزمة الفيروس، وأنه سيكون نتاج تزاوج العلم بالاقتصاد، وأن طبيعة الأحداث التي تمر بها الكرة الأرضية الآن تنبئ بتغيير في مستقبل الهياكل والأنظمة العالمية بعد كورونا المستجد، ويزداد شعور الناس بالقلق مع كل صباح يتابعون فيه أخبار الزيادة العددية في الإصابات والوفيات، فالكل كان يُمني نفسه بأن الأمر لن يستغرق أكثر من أسبوعين أو ثلاثة على أكثر تقدير، ومع تصدر دول كبرى عدد الإصابات والوفيات وعجزها عن صد الوباء، تيقن المجتمع الدولي أن العالم يمر بتغيير جوهري في قادم الأيام، وأن الصراع الآن هو من سيبقى؟ ومن لديه القدرة على الصمود من النظام العالمي القديم؟ وأن هناك لاعبين جددا سيظهرون على المسرح العالمي، يغيرون من قواعد السلوك الدولي.
ما يؤكد تلك النظرية السوابق التي مرت على العالم في ظروف مشابهة وبعض المقدمات التي سبقت الجائحة من تصريحات لرجال مال وأعمال وإنتاج بعض الأفلام التي توقعت بما يحدث حاليا. وفي محاولة للفهم أكثر، نفتش في التاريخ عن الأوبئة المشابهة، فنلاحظ أنه بعد كل وباء تكون هناك موجة جديدة من التقدم التكنولوجي التي تسهم في تصدر دول للاقتصاد العالمي لتسيطر على مسرح الأحداث، وفي استعراض لأحداث الماضي نجد على سبيل المثال في العام 1918 انتشرت جائحة الإنفلونزا الإسبانية، ثم أعقبها ببضع سنوات (1935) الإعلان عن توصل العالم الاسكتلندي روبرت طوسون إلى اختراع الرادار الذي طوره لرصد الطائرات الحربية، ونفس الأمر حدث قبل الإعلان عن اختراع الإنترنت حين تفشت جائحة الإنفلونزا الآسيوية، والآن جائحة كورونا التي نعاني منها، سندخل بعدها في الجيل الخامس من الاتصالات (G5) والتي قد تستخدم كسلاح حربي، عوضا عن تسببها في خلل دائم للجينات، وكل هذه الاختراعات تجني مليارات الدولارات للدول التي تتوصل إليها فتكون هي العصا التي تحكم العالم.
ربط فكرة كسنجر بمستجدات الساحة العالمية وتأثيرات كورونا، تعتبر إرهاصات للتنبؤ بشكل المستقبل ومتغيراته، وطرح التساؤل الأهم: هل سنكتفي بالجلوس على مقاعد المشاهدة في لحظة يتغير فيها العالم، وتتفكك تركيباته ليعاد إنتاج أنماط جديدة، ونعتبر أن ما يحدث مجرد قضاء وقدر؟ أم سنفكر في اللحاق بالركب الجديد ونتلمس النتوءات البارزة في النظام القديم لمداواتها وجعلها ملساء راعية للحياد بدلا من التسلق؟
لو كان التركيز مع الطرح الأول فإن أفكارنا ستقودنا لمسالك غير منتجة، تتعرج مساراتها، وتتفرع شعابها، وتبرز عراقيلها، فتثبط الهمم، وتتكسر العزائم، ويهبط النمو، لكن إذا تم التفكير في الطرح الثاني فسنجد أننا في مواجهة مع النفس للبحث عن إشارات ترشدنا إلى الكيفية التي يتطور بها العالم، وإيجاد مقعد في حافلة التحول، ودورا في العالم الجديد، وهذا يتطلب التوصل إلى تحديد الطريق الأفضل والأكثر جدوى، وتحليل التكاليف والفوائد، مع التفكير الاستراتيجي، والذي يبدأ بتحديد البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والجغرافي، الذي يمكنه أن يضعنا في منأى عن صراعات المستقبل وآثارها، مع الرفض لأي هيمنة تبعدنا عن مصالحنا الاقتصادية والسياسية، أو التي تطعن في إرثنا الثقافي والتاريخي، وامتدادنا البشري عبر الزمان والمكان.
إن صعود قوى جديدة لتشكيل النظام العالمي الجديد، الذي بات تشكيله جليا للعيان، ينبغي عليه إيجاد حلول جذرية لمساوئ العولمة، خصوصا ونحن مرشحون للاندماج فيها أكثر، فالعالم مقبل على نقلة جديدة في عالم الاتصالات (G5) والتي ستجبر الجميع على التعامل بالتكنولوجيا الرقمية، وربما يكون اختراق الرقمنة لعالمنا الجديد ضمانا لإقامة نظام عالمي نظيف يرث من النظام القديم كنوزه الإنسانية والفكرية التي أهملها، ويتخلى عن أطلاله من حطام الفردية والأنانية والمصالح الأحادية.

التعليقات معطلة.