ثقافيه

نيفين كلاس تقدم سردية راقصة بحركات اللغة العربية

عرض مشهدي متعدد يكسر المفهوم الرائج للرقص

محمود وهبة  

من العرض المسرحي الراقص لنيفين كلاس (خدمة العرض)

مشاهدة عرض “فصل” لنيڤين كلاس تشكل تحدياً فعلياً لمن لم يسبق له مقاربة مثل هذا النوع من الفنون، فهو عرض يقوم في أساسه على علامات التشكيل، أي التحريك اللغوي في اللغة العربية. ويتخذ منها دعامته وأساس فكرته ويشتمل على مسعى تجريبي ونافذة واسعة للارتجال، ويختلف هذا العرض عن عروض سابقة قدمتها كلاس من ناحية الترجمة الحركية وصيغتها الثابتة.

مُشاهد عروض الرقص المعهودة يرى أمامه راقصة في المعنى الحرفي للكلمة تتمايل على الموسيقى أو معها، أما كلاس فتتحرك على أساس حركات اللغة التي تقدمها الأغاني المشغلة في الخلفية والتي هي مرجعيتها في العرض.

وتخلق كلاس في سعيها إلى تمكين الأداء أبجدية جديدة للرقص، أبجدية قوامها حركات اللغة وتفاعلاتها، وهذه اللغة التي لا تحتمل اندماجاً ثانياً للغة أخرى معها تتحول في الأداء الحركي إلى أبجدية موازية ليست متحجرة بل أكثر رحابة. وفي معنى ما فهذا التبدل هو إسهام في تحويل اللغة وتشعباتها إلى لغة راقصة يستطيع أن يفهمها من يراها ويتفاعل معها، من خلال تمايلات جسدية خالية من التعري، وسكب شعوري حاضر في مختلف مفاصل العرض ومنعرجاته. الرجفة الملازمة ليديها والدمعة والنفس العميق والالتفاف بين كل فصل وكأنها حصان يلتقط أنفاسه بين سباق وآخر، ولا يمكن أن نغفل عن الحضور الأنثوي في كامل المشهدية على رغم أن المؤدية آثرت أن ترتدي ملابس رياضية بعيداً من الزينة، وبدت المشاهد والمقاطع المتتالية خالية من الزينة أيضاً، يضاف إليها الموسيقى التي كانت تقوم بتشغيلها بطريقة يدوية.

التشريق والتغريب

تنطلق نيفين كلاس في تماوجاتها الراقصة من رقص أشبه بالرقص الآلي الغربي robotique لتخترع نوعاً من التشريق للرقص الروبوتي، وكأنها تحارب الجاذبية بهذه الحركات المنتفضة. تمشي لثوان معدودة ثم تتوقف، هكذا تغدو الحركات والرقصات التابعة لها بمثابة لمسة أو روح أو بصمة تضاف إلى الرقص الروبوتي. الفتحة للتسليم والانفتاح والعلانية، أما الضمة فللضم والانعتاق داخل بوتقة، والكسرة تحيل للتقهقر والألم، أما السكون فقرينه الكتمان والتواري.

thumbnail_IMG_8719.jpg

نيفين كلاس على المسرح (خدمة العرض)

وعلى رغم من المعاني السلبية للحركات إلا أنها أعطت حياة وكأننا نحن واللغة في سياق واحد، وما يلفت أيضاً هو الحزن الذي يطلع من خلفية الحركات والذي يخيم على اللغة المقدمة. ارتجاف واضح تتماسك كلاس نفسها لمنعه من الظهور، وهو شعور موجود بلا محاولة، والحركات على تنوعها وتشعبها فيها شجن يعكس هواجس تميل إلى الحزن. وتبتعد نيفين في “فصل” عن كل شيء جمالي وأنيق لنبصرها مع الموسيقى البربرية برفقة حكاياتها والفواصل التي تتخللها لتصل إلى حال الانصهار الكلي، ولو شئنا الإنسحاق. تزحف على الأرض وكأنها قطعت السكون وذهبت إلى ما هو أبعد وتتدرج وتنتقل من الارتفاع إلى الانسحاق والملاصقة للأرض، لتتخلص من قيود اللغة وحركاتها.

الشاشة المرافقة في الخلف تحولت إلى لوحة على مدار العرض وكل ما هو موجود وعضوي في الجسد البشري يتحول إلى حركة، وهذه اللوحة والرسوم بخاصة الهدف منها التحليل وليس المباشرة، إذ إنها تجسد شيئاً مهماً من فكرة العرض وتساعدنا في أن نقرأه منقسماً إلى قسمين، قسم أدائي وقسم ثابت تقدمه شخوص اللوحة في الخلف، وتخطيط غير ناقص. تتحرك نيفين بعينين فارغتين وتنطلق من استقصاء الحالات النفسية ووضعيات الجسد، كل وضعية مختلفة عما قبلها. العرض فيه خطوط وتصاميم عدة تبدو وكأنها في رحلة داخل الضباب، وننتقل بعد ذلك إلى الكلام لحظة السكون، حين تثبت وتصمت وتتكلم من خلال نظراتها. فم مغلق ضاغط على نفسه وعينان مفتوحتان، وصفنات طويلة في الناس، وكأنها في وداع أو وجع أو رحلة عتاب. قصص ليست ساكنة بل ولادة أحاسيس.