د. إبراهيم نتيل
يعتقد كثير من المراقبين والمتابعين والخبراء ومنهم أيضًا عاملين في المنظمات الدولية والأممية والمجتمع المدني، في مناطق النزاعات المسلحة والحروب الأهلية، وأخص هنا بالتحديد الحرب الأهلية في ليبيا، بأن الثأر والحقد والانتقام المضاد هو السبب الحقيقي وراء الإخفاق في احلال السلام هناك. ولكن غياب أجهزة الدولة ومؤسساتها عن العمل بطريقة موحدة على جميع الأراضي الليبية يساهم في تغدية موجات العنف والتفجيرات والاغتيالات المستمرة بين الفرقاء والمجموعات المسلحة من كافة الأيدولوجيات والخلفيات المختلفة. تعطي هذه البيئة الخصبة من الانقسام الافقي والعمودي في المجتمع الملاذ الآمن لمجموعات مستوردة من خارج الحدود، ومدعومة من قوي خارجية تعمل على تعميق جروح الليبيين وانقسامهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
الاستمرار في غياب أجهزة الدولة المسئولة عن إحقاق العدالة وفرض القانون وهيبته على جميع شرائح المجتمع بدون تمييز ستعزز ثقافة التشرذم والانتقام والثأر وتزيد من تغول المجموعات المتناحرة على النفوذ والموارد والسلطة في ظل زيادة التمترس حول القبيلة والعشيرة لحماية أفرادها. وفي ظل انتشار هذه الثقافة الثأرية بين فئات المجتمع المختلفة في ظل لعب قوي خارجية يصبح من السهل جداً تبرير القتل والقتل المضاد تحت مسميات مختلفة. ويحاول كل طرف بأن يعطي لنفسه الحق والولاية لإثبات للطرف الآخر بأنه هو صاحب النفوذ والرأي السديد في فرض قانون قوته، ويعتقد بأن نهجه هو القويم في إحلال السلام في ربوع الدولة أو حتى في المنطقة الذي يسيطر عليها وتبرير أعماله الانتقامية بحجة بأن الطرف الآخر هو المسئول عن فشل المساعي السلمية وتوحيد البلاد تحت إمرة “الحكومة الشرعية”.
ولكن الأهم في هذه الحالة من الفعل وردة الفعل المضاد في ظل تفشي ظاهرة الانتقام وتمترس الجهوية والقبلية والعشائرية في “دولة فاشلة” حسب أدبيات العلاقات الدولية والسياسة، يغيب العقل في تقبل الآخر ووجوده وقابلية مشاركته في إدارة شؤون الدولة. ومع العلم، بأن تجارب كثير من المجتمعات التي عصفت بها النزاعات والحروب الأهلية المتشابهة أو غير ذلك في مناطق مختلفة من العالم تقول وتثبت شيء واحد هو، بأن المتخاصمين والمتناحرين يوماً ما سيقبلون بالأمر الواقع وأن يقبل كل طرف الآخر مهما قصر أو طال أمد الانقسامات وويلاتها. ولكن متي؟ بعد ان تفشل جميع محاولتهم في القضاء على بعضهم البعض لإنهم أصحاب البلد.
التعلم من هذه تجارب الدول الذي مزقتها الحروب الأهلية، والتمعن فقط في الشرق الأوسط وبالتحديد في الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي لم يستطع أي طرف إلغاء الآخر ولكن عندما أنهكت الحرب الجميع وأدركوا بضرورة تقبل الآخر في العمل المشترك توصلوا الي اتفاقية الطائف التي أوصلت البلد الي هذه النقطة اليوم من التعايش والقاسم المشترك على الرغم من تشابك أطراف مختلفة في حروب وويلات تندلع اليوم في الإقليم.
المبعوث الأممي الي ليبيا د. غسان سلامة اللبناني الجنسية الذي غرد على توتيره مؤخرًا بأن الثأر والانتقام لا يجلب العدل والسلام الي ليبيا، هو نفسه يعرف تماما بأن المشهد الليبي بتركيبته الاجتماعية والسياسية يختلف عن المشهد اللبناني في نهاية الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن التعقيدات الجهوية والسياسية بالإضافة إلى الجغرافيا المتباعدة الأطراف ذات حدود يصعب السيطرة عليها تبقي مفتوحة أمام العصابات وأمراء الحرب في إقليم يعصف به كثير من النزاعات، ووجود بعض دول الهشة يبقي احتمال استمرار الأزمة مرشحا لمدة أطول ينتفع منها فقط هؤلاء. ولكن عندما تدرك جميع الأطراف الخارجية بأن الأطراف المتناحرة في ليبيا غير قادرة على الاستمرار في التنازع والحرب الذي انهكتهم يبقي الليبيين هم فقط أصحاب القرار بنزول عن شجرة الانقسام، وقبول بعضهم البعض في الشراكة الفعلية والعملية إدارة شؤون الدولة كما هو مطلوب الحال في فلسطين واليمن وسوريا والعراق والقائمة تطول في الدول والمناطق التي تعصف بها النزاعات، ولا تستطيع الأمم المتحدة أن تفرض حلًا علي جميع الأطراف.
الأجدر أن يتغلب قانون العقل علي ثقافة الانتقام، لأن الخاسر الوحيد هو الوطن والمواطن، والذين يستفيدون فقط من هذه الحالة هم أمراء الحرب وامتداداتهم الخارجية من شركات النفط والسلاح. وهم أيضًا أنفسهم يهندسوا ويحضروا لمرحلة ما بعد الحرب في عملية “إعادة الإعمار” ما دمره الانقسام، ليستفيد منها أيضاً هم القوي الخارجية والشركات العملاقة من خلال عملية ممنهجة لإعادة تدوير السيطرة والانتفاع من مقدرات الشعب المسحوت في هذه البلد الغني بالثروات.