“هزمنا العقوبات الغربية”.. هكذا تباهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمام حشد واسع من النشطاء ببلاده قبيل أيام في مدينة تولا (الشهيرة بصناعة الأسلحة بالبلاد)، مؤكداً أن الغرب الذي تنبأ بفشل وانهيار موسكو اقتصادياً –بعد الحرب- لم ينجح، ذلك أن “الاقتصاد يواصل النمو على العكس من اقتصاداتهم”، على حد قوله.
تصريحات الرئيس الروسي وغيره من المسؤولين في موسكو حول ما أبداه اقتصاد بلادهم من قدرة على الصمود بعد عامين من العملية العسكرية في أوكرانيا، ليست في إطار الدعاية السياسية والاقتصادية، إنما تؤكدها تقارير صادرة عن مؤسسات دولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، الذي عدّلَ أخيراً توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي في روسيا إلى 2.6 في المئة، بما يمثل زيادة قدرها 1.5 نقطة مئوية عن التقديرات السابقة التي حددها الصندوق في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
وبحسب صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، فقد أذهل هذا الصمود الاقتصادي العديد من الاقتصاديين الغربيين “الذين تصوروا أن الجولة الأولى من العقوبات بسبب الحرب في أوكرانيا قبل ما يقرب من عامين يمكن أن تؤدي إلى انكماش كارثي”.
لكن اقتصاديين آخرين، يرون في الوقت نفسه أن اقتصاد موسكو كان من الممكن أن ينمو بمستويات أكثر استدامة لو لم يأمر بوتين ببدء الحرب في أوكرانيا على نطاق واسع.
من جهة أخرى، فإن واحدة من أوجه ودلائل الصمود رغم 12 حزمة عقوبات مفروضة من جانب الغرب (تشمل حوالي 1800 فرد وكيان) مع تجميد أصول روسية بقيمة 300 مليار دولار، هو ما يتعلق بإيرادات موسكو من الطاقة، وعلى الرغم من الجهود الأميركية والغربية المضنية لفرض حصار خانق على روسيا منذ الرابع والعشرين من شباط (فبراير) 2022 وهو تاريخ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
في العام المنصرم 2023، سجلت إيرادات روسيا الطاقوية ما يصل إلى 8.8 تريليون روبل، ورغم أن هذا المعدل يمثل انخفاضاً بنسبة تصل تقريباً إلى 25 في المئة من معدلات العام الأول من الحرب، إلا أنها إيرادات قياسية بالنسبة لمتوسط السنوات العشرة الماضية.
ونما الاقتصاد الروسي في 2023 بنسبة 3.5 في المئة، بدعمٍ من القطاعات الصناعية والزراعية والبناء، جنباً إلى جنب مع تنامي الطلب الاستهلاكي، وذلك مقابل توقعات سابقة من قبل وزارة التنمية الاقتصادية بنمو بنسبة 2.8 في المئة، وتقديرات بنحو 3 في المئة من جانب البنك المركزي الروسي.
كما سجل معدل البطالة تراجعاً إلى أدنى مستوى في تاريخه، وصولاً إلى 2.9 في المئة، وفق ما تُظهره البيانات الرسمية.
كذلك تشير البيانات الرسمية التي استدل بها بوتين في خطابه المشار إليه، إلى نمو القطاع الصناعي بنسبة 6 في المئة، علاوة على 10 في المئة نمواً في الاستثمارات، مع انخفاض معدلات الدين الخارجي إلى النصف تقريباً (32 مليار دولار، من 46 مليار دولار). كما تراجعت معدلات التضخم إلى ما بين 7.5 و8 في المئة.
عوامل أساسية
من روسيا، يقول الاستاذ بالمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، رامي القليوبي، في تصريحات خاصة لـ”النهار العربي”، إن ثمة مجموعة من العوامل الأساسية التي دعمت قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود؛ في مقدمتها أن دولة كبرى مثل روسيا لا يمكن شطبها من الخريطة الاقتصادية العالمية.
ويفسر ذلك بقوله: “الغرب اتبع مع روسيا نفس الأساليب التي اتبعها مع إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية والعراق وليبيا وسوريا.. لكنها في الوقت نفسه من أكبر الدول المنتجة للنفط بعد الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية”، وبالتالي لم تُجد معها تلك الاستراتيجية التي اتبعها الغرب، نظرا لاحتياجه هو شخصيا لمنتجات الطاقة الروسية.
ومن ثمَّ، كان الغرب يعاقب روسيا بيدٍ، بينما باليد الأخرى يتيح لها الحصول على ملايين الدولارات على سبيل عوائد النفط والغاز.
العامل الثاني ضمن العوامل التي يُبرزها القليوبي في هذا السياق، يرتبط بكون العقوبات المفروضة على روسيا هي عقوبات “أحادية الجانب” لم تمر على مجلس الأمن، ومن ثم فهي غير ملزمة للدول غير تلك التي فرضت حزم العقوبات.. وهذا ساعد موسكو على تطوير علاقات مع الصين والهند والدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، مشدداً على أن “موسكو عوضت العلاقات مع أوروبا ببناء علاقات مع الدول غير الغربية”.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى النمو الواسع الذي شهدته العلاقات الاقتصادية بين موسكو وبكين في العامين الماضيين، في وقت تشير فيه التقديرات –التي كشف عنها الرئيس بوتين قبل نهاية العام الماضي- إلى أن حجم التجارة ارتفع في 2023 إلى 200 مليار دولار، بما يمثل زيادة بنسبة الثلث تقريباً مقارنة مع معدلات العام 2022.
السياسات المالية والنقدية
وفي السياق، “من المهم الإشارة إلى الدور الأساسي الذي لعبته السياسات المالية والنقدية الروسية في تعزيز هذه الصلابة”، بحسب الخبير الاقتصادي مازن أرشيد، في تصريحات خاصة لـ”النهار العربي”، أشار خلالها إلى أن البنك المركزي الروسي اتخذ خطوات استباقية برفع أسعار الفائدة لكبح التضخم ودعم الروبل، وبما ساعد في استقرار العملة الوطنية وأعطى ثقة للمستثمرين.
كما عملت روسيا على زيادة احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية، الأمر الذي وفر وسادة ضد الصدمات الخارجية، بلغت قيمتها قبل فرض العقوبات أكثر من 600 مليار دولار.
ويضيف أرشيد: “تمتاز مصادر الدخل الروسي بالتنوع، خاصة في قطاع الطاقة الذي يعتبر عصب الاقتصاد الروسي… وعلى الرغم من العقوبات، استطاعت روسيا تحويل صادراتها من النفط والغاز إلى أسواق بديلة مثل الصين والهند (بأسعار أقل)، ما سمح لها بالحفاظ على مستويات معقولة من الإيرادات. فعلى سبيل المثال، شهدت الصادرات الروسية من النفط إلى الصين زيادة كبيرة في النصف الأول من 2023، ما يدل على قدرة روسيا على إعادة توجيه تجارتها الخارجية للتغلب على التحديات”.
وبحسب نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، فإن نحو 50 في المئة من صادرات بلاده من النفط ومنتجات البترول في 2023 كانت من نصيب الصين، وكذلك ارتفعت حصة الهند في عامين إلى 40 في المئة.
ويشير أرشيد إلى أنه “لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته الشراكات الاقتصادية الاستراتيجية التي قامت بها روسيا مع دول أخرى خارج الكتلة الغربية؛ فهذه الشراكات وفرت شبكة أمان وسمحت بتبادل الموارد والتكنولوجيا، مما خفف من وطأة العقوبات”، مستدلاً بالاتفاقات الاقتصادية الموقعة مع الصين في مجالات مثل الطاقة والتكنولوجيا والبنية التحتية التي أسهمت في تعزيز النمو الاقتصادي الروسي وتقليل الاعتماد على الأسواق الغربية.
ونجحت أيضاً السياسات الداخلية التي اتبعتها موسكو لتشجيع الإنتاج المحلي واستبدال الواردات في لعب دور رئيس في تعزيز الاقتصاد. ومن خلال دعم الصناعات المحلية وتحفيز الاستثمار في القطاعات الرئيسية مثل التكنولوجيا والزراعة، تمكنت روسيا من تقليل اعتمادها على الواردات، الأمر الذي ساعد في تحقيق درجة أكبر من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي.
ويضيف الخبير الاقتصادي، في معرض حديثه مع “النهار العربي”: “من خلال تحفيز الاستهلاك الداخلي وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، تمكنت الحكومة الروسية من المحافظة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مما ساعد في الحفاظ على النمو الاقتصادي في ظل الضغوط الخارجية”.
أبرز التحديات
لكنّ الصورة لا تبدو “ورديّة” تماماً بالنسبة للاقتصاد الروسي؛ بالنظر إلى حجم التحديات التي يواجهها، سواء لجهة الحصار التي تحاول الدول الغربية فرضه عليه –والذي يهدد بمصادرة الأصول الروسية المجمدة لتمويل إعمار أوكرانيا- وكذلك بالنظر إلى التحديات العالمية التي تفرضها حالة عدم اليقين التي تسيطر على الاقتصاد العالمي حالياً جراء الاضطرابات الجيوسياسية القائمة.
وبالعودة لحديث القليوبي مع “النهار العربي” في هذا السياق، فإنه يشير إلى مجموعة من التحديات التي يواجهها الاقتصاد الروسي، في مقدمتها أن “هذه العلاقات (تجارة النفط مع الصين والهند تحديداً) صحيح أنها تعوض خسائر السوق الأوروبية من جهة الكميات، لكنها لا تعوضها من جهة القيمة الاسمية لهذه الإمدادات (على أساس أن البيع يتم بأسعار مخفضة) وهذا أدى إلى تراجع العائدات الروسية من النفط والغاز”.
كذلك هنالك صعوبات في الحصول على العملات مثل الدولار واليورو؛ لأن التجارة مع الصين والهند تتم عبر اليوان والروبية، وإن كان اليوان يمكن الاستفادة منه عن طريق شراء سلع من الصين، لكن في الحالة الهندية فالروبية غير مفيدة لموسكو.
ويضيف: “هناك تحديات أخرى مثل تراجع العملة الروسية، ما يضطر السلطات لاتخاذ قرارات تشكل صدمة للاقتصاد مثل رفع الفائدة الأساسية، والتي تبلغ حالياً 16 في المئة “صحيح أن هذا يسهم في كبح جماح التضخم، لكن في الوقت نفسه يعطل الاقتراض ولا يسهم في التنمية الاقتصادية”.
ويستطرد: “كذلك تضطر الحكومة الروسية إلى التدخل في الاقتصاد بشكل غير سوقي، عبر إجراءات مثل إلزام المصدرين ببيع عوائد العملة الأجنبية، وهذا كله لن يصب في مصلحة الاقتصاد على المدى البعيد”، كذلك فإن هناك تحديات على صعيد قطاع التكنولوجيا، فموسكو تضطر أحياناً على سبيل المثال لوقف تشغيل طائرات من طرازات معينة لعدم توافر وسائل صيانة المحركات أو إخضاع الطائرة للصيانة في دول أخرى مثل إيران.