كتب / د.باسل عباس خضير…
لا اعلم عدد المرات التي سألوني فيها عن مصير هيئة التعليم التقني ، والغرض هذا السؤال هو معرفة هل ألغيت هذه الهيئة أم إنها لا تزال حية وعلى قيد الحياة ، ورغم إنني أقدم إجابات في كل مرة على قدر معرفتي فحسب إلا إن السؤال لا يزال يتردد ذاته وكأن الموضوع تكتنفه العديد من الأسرار فالبعض يعتقد إن كل الإجابات غير وافية وغير مقنعة ، وبصراحة تامة إنني لم امتلك الرغبة الكاملة في الإجابة التفصيلية عن الموضوع أولا لأني أجدها تنطلق من حب ووفاء من السائلين لهذه الهيئة بحيث اخشي إحباط البعض ، وثانيا لأنني لست الناطق الرسمي باسمها وعلاقتي انتهت بها بعد نقلنا إلى ملاك إحدى الجامعات كما إن بعض السائلين يمتلكون حساسية كبيرة للإجابات السلبية أو الايجابية لأنهم يعتقدون إنهم من المظلومين مما آل أليه حال هيئة التعليم التقني ، وهؤلاء يصنفون أنفسهم بين متضررين اجبروا على النقل إلى جامعات أو وزارات داخل أو خارج التعليم العالي رغما عن خياراتهم حيث منحت لهم مهلة للنقل بدرجاتهم الوظيفية وتخصيصاتهم المالية إلى المكان الذي يجلبون منه طلب الحاجة وإلا تصدر أوامر النقل بالإكراه ( على ما ذكروه هم ) ، أما الصنف الآخر فإنهم يشكلون بعض الموجودين حاليا في الهيئة وهذا البعض يعتقد أنهم من المهمشين فالهيئة بوضعها الحالي ليس فيها تشكيلات ترتبط بها وإنهم يمارسون أعمالا تغاير ما تعودوا عليه عندما كانت ترتبط بهيئة التعليم التقني 19 كلية و27 معهدا في التخصصات التقنية ، ولان الموضوع يتجدد كل يوم حول مطالبهم بتسليط الأضواء عن مصير هيئة التعليم التقني فقد كتبت هذه المقالة وهي خلاصة متابعة وتقصي عن بعض التفاصيل بمعنى إنها لا تعكس وجهة نظر أية جهة رسمية ، وارجوا ممن يقراها أن لا يقسوا أو يشخصن في التعليقات لأننا نستنسخ الواقع حتى وان تضمنت بعض وجهات نظرنا الخاصة ، وفي كل الأحوال فان مصير الهيئة ومستقبلها وتكييف وضع العاملين فيها متروك للجهات المعنية ومن يشعر بالظلم فهناك قنوات إدارية وقضائية مختصة وهي المسؤولة عن البت بهكذا أمور لان وظيفة الإعلام هي النقل والتحليل وليس اتخاذ القرارات وصناعة الحلول وسألخص الموضوع بنقاط :
.. من المعروف إن التعليم التقني بدأ بصورة فعلية في العراق عام 1969 وقد أسندت مهامه إلى مؤسسة المعاهد الفنية وهي إحدى تشكيلات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ولحاجة البلد إلى اطر تقنية وسطى لتلبية احتياجات التنمية فقد تأسست المعاهد الفنية في بغداد والمحافظات لقبول خريجي الثانويات المهنية والدراسة الإعدادية بفروعها الأدبية والعلمية ثم ظهرت الكليات التقنية وأصبح التعليم التقني يضم التخصصات الهندسية والإدارية والزراعية والفنون التطبيقية والصحية والطبية وغيرها .
.. تغير اسم مؤسسة المعاهد الفنية إلى هيئة المعاهد الفنية ثم تحولت تسميتها إلى هيئة التعليم التقني بموجب المادة الرابعة من القانون 81 بعد أن خضعت لأحكام قانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم 40 لسنة 1988 ، وتحولت هيئة التعليم التقني إلى تشكيل كبير يتكون من 46 كلية ومعهد ومجموعة من الأقسام واللجان التخصصية ومركز تطوير الملاكات وكانت تتولى قبول إعداد كبيرة من خريجي الثانويات المهنية والاعداديات وبنسبة وصلت إلى أكثر من 35% من مجموع المقبولين في الجامعات العراقية الحكومية ثم استحدثت فيها الدراسات العليا للدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه وكان ما ميزها اعتمادها على الجوانب التطبيقية التي تصل نسبتها إلى 70% من مناهجها لبعض التخصصات وعزز ذلك بوجوب إنهاء متطلبات التدريب العملي لمدة شهرين في المواقع وحقول العمل الميداني .
.. بموجب التعديل الثامن لقانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم 40 لسنة 1988 الصادر بموجب القرار رقم 2 لرئيس جمهورية العراق لعام 2014 والمنشور بجريدة الوقائع العراقية بعددها 4308 في 13 شباط 2014 ، حصل تحول مهم في موضوع تأسيس الجامعات الحكومية ففي ظل النظام البائد كانت هذه الصلاحية من اختصاص مجلس قيادة الثورة ( المنحل ) وهذا المجلس ( ولأنه يعمل في ظل نظام شمولي ) يجمع بين الصلاحيات التشريعية والتنفيذية ، وبعد 2003 وصدور دستور العراق تم العمل بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ( التشريعية لمجلس النواب ، التنفيذية لمجلس الوزراء ، القضائية لمجلس القضاء ) ، وبموجب التعديل الثامن لقانون الوزارة انف الذكر ورد في الفقرة 2 من المادة 8 من التعديل ( 2. لمجلس الوزراء استحداث جامعة أو هيأة بناءا على اقتراح وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ) .
استنادا للنص المذكور أعلاه ونظرا لنفاذ قانون التعديل الثامن لقانون الوزارة اعتبارا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية استنادا للمادة 16 من قانون التعديل فقد عد القانون نافذا من 3/ 2/ 2014 وهو تاريخ النشر في الجريدة الرسمية ويعني ذلك من الناحية الفعلية إن استحداث الجامعات يكون باقتراح من وزارة التعليم وموافقة مجلس الوزراء ، وبهذا النص تم اقتراح أربعة جامعات تقنية ( الفرات الأوسط ، الوسطى ، الجنوبية ، الشمالية ) وحصلت موافقة مجلس الوزراء عليها في نيسان 2014 أي بعد مرور أسابيع على نفاذ القانون ، إذ كانت الدراسات الخاصة بتأسيسها مكتملة بعد أن بدا بها الأستاذ الدكتور عبد الكاظم الياسري عندما كان رئيسا لهيئة التعليم التقني وكانت تلك الدراسات مستندة إلى محاضر اجتماعات العديد من اللجان التي شكلت والمؤتمرات التي انعقدت والتي تم فيها التصويت علنا للانتقال إلى الجامعات التقنية ، وفي حينها طرح السؤال هل إن هذه الجامعات ( فتية ) أم إن عمرها يمتد لتاريخ الهيئة وهل إن النص القانوني باستحداث الجامعات يعني تأسيس جامعة من نقطة الصفر أو الجواز بانشطار هيئة إلى مجموعة من الجامعات ؟ إضافة إلى تساؤلات أخرى توقفت ( تقريبا ) بحصول موافقة مجلس الوزراء على تأسيس تلك الجامعات ومباشرتها بإعمالها بالفعل وفي هذه الأيام تحتفل بمرور 5 سنوات على التأسيس .
.. والموضوع الذي لم تتوقف التساؤلات بشأنه لحد اليوم هو مصير هيئة التعليم التقني فالتعديل الثامن لقانون الوزارة أبقى هيئة التعليم التقني ضمن المادة 8-1- ب فعند ذكر الهيئات ورد في التسلسل ( أولا – هيئة التعليم التقني ثانيا- الهيأة العراقية للحاسبات والمعلوماتية ) ، كما إن التعديل الثامن أو غيره لم يتطرق أو يلغي الباب الثالث من قانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم 40 لسنة 1988 وعنوان الباب ( هيئة التعليم التقني ) ويتضمن هذا الباب المواد 31 و32 و33 و34 و35 التي لا تزال سارية من الناحية القانونية لحد اليوم رغم تأسيس الجامعات التقنية الأربعة والبعض يعتقد إن تأسيس الجامعات استند إلى مادة وردت في التعديل الثامن بعد سريانه ونفاذه وان بقاء المواد الخاصة بهيئة التعليم التقني هو من قوتها المكتسبة من القانون لان تعديلها أو إلغائها يحتاج إلى قانون باعتبار إن القانون لا يلغى أو يعدل إلا بقانون ، وإذا كان هذا الأمر هو ما يعول عليه فلماذا لم يصدر قانون يتضمن الإلغاء أو التعديل من 3/ 2 / 2014 ولغاية اليوم وبعد مرور أكثر من خمسة أعوام ؟ .
.. ومما يؤكد إن هيئة التعليم التقني لم يتم إلغائها بعد تأسيس الجامعات التقنية الأربعة وبضمنها الجامعة التقنية الشمالية التي مرت بظروف أمنية صعبة اضطرها للتواجد في بغداد لحين تحرير الموصل ، إن بناية الهيئة وأقسامها بقيت على حالها بعد التقليص ونقل الموظفين الراغبين إلى الجامعات التقنية وبقاء رئيسا للهيئة الذي أصبح رئيسا لجامعة الفرات الأوسط التقنية أي انه جمع بين المنصبين كما إن بعض النشاطات لم تتوقف مثل المكتب الاستشاري ومركز تطوير الملاكات ، وكانت تدور العديد من الأحاديث بخصوص مصير الهيئة فالبعض اعتقد أنها ستتحول لهيئة المعاهد التقنية دون الكليات والبعض روج لفكرة ارتباط الجامعات الأربعة بالهيئة لتمثيل التعليم التقني في الوزارة للمحافظة على هوية التعليم التقني من الضياع ولتوحيد الجهود مع المنظمات الدولية بخصوص تقديم المساعدات والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في التعليم التقني خاصة بعد توقيع اتفاقية التعليم المهني والتقني مع الاتحاد الأوربي لغاية 2023 برعاية ومباركة دولة رئيس الوزراء كما إن هناك أمورا وجد إنها يجب أن تنسق وتوحد فيما يتعلق بالمناهج واللجان القطاعية والترقيات العلمية باعتبار إن التخصصات الموجودة في التعليم التقني تتطابق إلى حد كبير في الجامعات التقنية الأربعة ولكنها تفترق إلى حد كبير مع الجامعات الأكاديمية ومما سند بعض توجهات التوحيد وإبقاء الهيئة لبعض الأدوار الأساسية للتعليم التقني برئاسة دورية من قبل رؤوساء الجامعات التقنية هو دعم معالي الوزير الأستاذ الدكتور عبد الرزاق العيسى الذي استلم مهام الوزارة لموضوع الحفاظ على هوية التعليم التقني ومنح المرونة الإدارية والمالية من خصوص اللامركزية ومنح الصلاحيات لتشكيلات التعليم القني .
.. رغم تعدد الآراء بخصوص مستقبل هيئة التعليم التقني وبقاء الوضع على ما هو عليه فقد وجد بان أي تغيير بحاجة إلى تشريع ، وحسب ما تم تداوله وأشيع في ذلك الوقت فقد طرح الموضوع على هيئة الرأي في الوزارة لمرات ورؤى عديدة ، وفي آخر اجتماع بهذا الصدد تمت مناقشة مستقبل الهيئة في اجتماع لم يحضره رئيس الهيئة لأنه كان مكلف بواجب خارج العراق وحضر بدلا عنه احد مساعديه الذي كلف بالحضور قبل ساعات من الانعقاد ، وتم اتخاذ قرارا بالتصويت بإلغاء مهام الهيئة لان ما ورد في الباب الثالث موجود في الباب الخاص بالجامعات في قانون الوزارة ، وبعد فترة تم تغيير إدارة الهيئة إذ تم تكليف السيد رئيس الجامعة التقنية الوسطى بمهام رئيس الهيئة إضافة إلى واجباته كما تم نقل المساعد الإداري خارج التعليم التقني و بعدها تم تقليص عدد الموظفين وتخييرهم بالتقاعد أو النقل داخل أو خارج التعليم التقني والعالي على أن ينجز ذلك بوقت محدد ، ورغم رفع توصيات هيئة الرأي للجهات المعنية إلا إن وضع هيئة التعليم التقني لم يتغير لحد اليوم لعدم صدور تشريع خاص بتكييف أمورها أو صدور التعديل التاسع لقانون وزارة التعليم العالي رقم 40 لسنة 1988 والوضع الحالي هو :
– إن بناية الهيئة موجودة حاليا في المنصور / شارع النقابات وهو نفس مقرها بعد 2003
– يتولى الأستاذ الدكتور ماجد حميد مجيد رئاسة الهيئة إضافة لمنصبه رئيسا للجامعة الوسطى
– يعمل في الهيئة مجموعة من الموظفين بعناوين ودرجات ومستويات وتخصصات متعددة
– للهيئة ملاك للقوى العاملة وتخصيصات مالية مصادق عليها ضمن الموازنة الاتحادية 2019
– تم فك ارتباط مركز تطوير الملاكات من الهيئة وربطه بالجامعة التقنية الوسطى عام 2016
– ليست هناك معلومات تفصيلية عن المهام والواجبات التي تتولاها هيئة التعليم التقني كما إن مراسلاتها مع الجامعات التقنية غير ملموسة ولم نسمع عن أية نشاطات تقوم بها من حيث ارتباط اللجان القطاعية بها أو ممارستها لدراسة وتحديث المناهج وعلاقاتها المحلية والأجنبية ، وبشكل يوحي إن وجودها هو أشبه بتصريف الإعمال رغم انقضاء أعمالها لحين صدور تشريع أو قانون يحدد المهام أو الواجبات أو تصفيتها وانتهاء أعمالها ، وقد تكون هناك مبررات لأي إجراء يتخذ بهذا الخصوص ولكن هناك من يتساءل هل يجوز من الناحية القانونية بقاء كيان مدرج بقانون نافذ طيلة هذه السنوات وهناك أموالا من الموازنة الاتحادية تصرف كرواتب ونفقات تشغيلية ، ومن يعلم فقد تكون لها مهام وواجبات تبرر كل دينار يصرف ولكن غياب الشفافية هم من يعطي الانطباع لهذا النوع من البرود لهيئة وكان ولا يزال اسمها ومحتواها وانجازاتها تعد واحدة من انجازات العراقيين المخلصين خلال نصف قرن ، ففيها صنعت الانجازات والخبرات التي نفخر بها اليوم وفي كل ما مضى من الأيام والسنوات، ومن رحمها ولدت الجامعات التقنية الأربعة التي حققت علامات التفوق والتقدم ضمن معايير الأداء ومنها التي أعلنت مؤخرا رغم الظروف الصعبة في الولادة التي تزامنت مع هجمات داعش الإجرامي ما لحق ذلك في معارك التحرير ، ولا نقول وداعا لهيئة التعليم التقني لأنها حية ترزق ونبضاتها تسري في داء التقنيين وكل العراقيين الذين لمسوا عطائها الطويل ، وهي لا تموت يوما لان أولادها وبناتها يتوارثون عزها وثمارها في التعليم التقني أينما كان في داخل وخارج العراق فإشعاعاتها أوقدت شموع وضياء هذا النمط من التعليم ممن أسس لهم بلدنا هذه التجربة الفذة وان تفوقوا علينا في الإمكانيات المادية في بعض الاحيان ومما يؤكد ويعزز ذلك إن مقر الاتحاد العربي للتعليم التقني كان في العراق ، ونتمنى ممن يعنيه الأمر التعجيل في إنقاذ هيئة التعليم التقني بإعادة النظر في المهام والواجبات بحلول تنصفها ولا يبقيها في حالة وقوف لسنين بعد طول الانتظار ، فهناك من ينفق المليارات لإيجاد شيء جديد لعله يأتي بزرعه والهيئة عمرها 50 عاما وهي شجرة عالية ومتجذرة وغنية بالثمار .