رانج علاء الدين
لطالما كان السيد مقتدى الصدر شخصاً غامضاً. على مرّ الأسابيع الماضية، حظي الإمام الشيعي، والذي يترأس أقوى تيار اجتماعي-سياسي في العراق، بترحيب حار في دول الخليج الرائدة في المنطقة، التي لطالما تجنّبت على نحو واسع الأغلبية الشيعة في العراق قبل أن تلتفت إليه لتعبئة المعارضة ضدّ الفساد والركود والاستبداد داخل الحكومة ذات الأغلبية الشيعية في بغداد.
يتمتع الصدر بقدرة فريدة لا مثيل لها على تعبئة الحشود، وكذلك بإرثِ تركه له والده، ويستفيد من الخلافات المتنامية في العراق، وكل ذلك يجعل منه أفضل أمل بالنسبة للبلاد للحدّ من النفوذ الإيراني في العراق ولتعزيز مساءلة الحكومة في المستقبل القريب. إلا أنّ الأمر لن يخلو من التحديات.
دور مقتضى الصّدر المبهم
وصل الصدر إلى السلطة بعد الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 كمعارض شرس للاحتلال الأمريكي. خلال تلك الفترة، انخرط جناح منظمته الميليشاوي، والذي كان يُعرف حينها بجيش المهدي، في حملة عصابات ضدّ الجنود الأمريكيين، وأحياناَ ضدّ خصومه المحليين. وقام كذلك بنشر شبكات التيار الصدري الواسعة الذي أسسه والده في تسعينيات القرن العشرين لملء الفراغ الناتج عن انهيار الدولة، مؤمّناً بذلك الحماية والخدمات الاجتماعية للطبقات الشيعية المعدمة.
وقد فرض الصدر نفسه اليوم كعامل موازن ضدّ النفوذ الإيراني في العراق وبَطَل إصلاح، إلا أنّ تياره يتحمل مسؤولية أغلبية المشاكل التي يتخبط فيها العراق. إذ أدى جيش المهدي دوراً مركزياً في تغذية الصراع الطائفي الذي دمّر العراق، وحارب الائتلاف الأمريكي والقوات العراقية، وشارك في أنشطة إجرامية. وفي المراحل الأولى، استفاد الصدر من الدعم الإيراني وأمضى في إيران ثلاث سنوات في منفى طوعي يصقل في خلالها مؤهلاته الدينية.
وفي خلال زيارة بحثية أجريتها مؤخّراً إلى بغداد، شرح لي ممثل عن التيار الصدري أنّ الاستراتيجية الأولى لجيش المهدي كانت نتيجة انهيار الدولة والاضطراب الذي أعقب الغزو الأمريكي. في الواقع، بالإضافة إلى محاربة المجموعات المتمردة السنية العربية، كان على جيش المهدي أيضاً أن يتفوق على خصومه ضمن الصفوف السياسية الشيعية، بما في ذلك المجلس الشيعي الأعلى في العراق، وكتائب بدر (الجناح المسلّح السابق في المجلس الشيعي الأعلى في العراق الذي انشقّ عن المنظمة)، وكذلك حزب الدعوة الإسلامية.
ساعد جيش المهدي بقيادة الصدر على إنشاء مجموعة من الميليشيات الحليفة لإيران التي حظيت مؤخّراً بالثناء على نطاق واسع لمواجهتها ما يُعرف بالدولة الإسلامية. تتصدر هذه المجموعات اليوم قوات الحشد الشعبي التي تأسست تحت رعاية الدولة العراقية وعملت بموازاة الجيش العراقي الضعيف. وقد أمّنت هذه الميليشيات الحماية للنفوذ الإيراني الذي لا مثيل له في العراق.
وفي العام 2011، عاد الصدر إلى العراق كشخصية لبقة وحذقة إعلامياً – طبعاً بفضل التدريب والدعم الذي حظي بهما في إيران. وقبل عامٍ من عودته إلى العراق، فاز التيار الصدري بنحو أربعين مقعد في الانتخابات البرلمانية للعام 2010 وحصل على سبع حقائب وزارية، بالإضافة إلى منصب نائب رئيس مجلس النواب، وكذلك منصب محافظ في مجموعة من المحافظات في جنوب البلاد. وبحلول العام 2011، تحوّل جيش المهدي إلى منظمة خدمات اجتماعية، في محاولةٍ من الصدر لتلميع سمعته الملطّخة بفعل مشاركته في الحرب الأهلية والأعمال العدائية الطائفية والأعمال الإجرامية. إلا أنّ المنظّمة تمكّنت من استعادة القدرة على التصرف كميليشيا وعلى تعبئة آلاف الرجال للمشاركة في الصراع المسلح عند الحاجة.
ما الذي يجعل مقتضى الصدر مختلفاً؟
ميّزتان تميزان مقتضى الصدر عن خصومه: إرث والده، السيد محمد محمد صادق الصدر، والقدرة التعبوية للتيار الصدري. قد يتمكّن الصدر، بفضل هاتين الميزتين، من التصدي للزحف الإيراني على العراق ومن تشجيع الفئات السياسية العراقية على المضي نحو الإصلاح.
في حين تشتهر الميليشيات المنافسة له بنجاحاتها على أرض المعركة ضدّ داعش، فقد ظهر الصدر كصوت أكبر شريحة من سكان العراق – الطبقات الشيعية المعدمة – كما كان والده. وأسس الوالد الصدر قاعدة اجتماعية قوية في تسعينيات القرن العشرين، حين كان الشيعة يعانون قمع نظام البعث وعقوبات الأمم المتحدة. وقد أدّ تحدي الصدر قيادة صدام حسين إلى اغتياله في العام 1999، فارتقى بالتالي إلى رمزٍ للمقاومة الشيعية.
وتعزّز إرث الشرعية هذا التيار الصدري ومقاومته للتدخل الإيراني في الشؤون العراقية، باستثناء الفترة القصيرة التي قضاها الصدر في المنفى الطوعي في إيران. ونتيجة لاستقلالية التيار وقدرته على الاكتفاء الذاتي من خلال السيطرة على ما يُعرف بالاقتصاد غير الرسمي، وسيطرته أو النفوذ الذي تمتّع به على الوزارات منذ العام 2003 (الأمر الذي أتاح للمنظمة استعمال موارد الدولة كنوع من الدعم)، بالإضافة إلى الأعمال الإجرامية، ظهر التيار كأمر استثنائي في بلاد يُعتبر فيها رجال الدين والسياسيون والميليشيات كعملاء لقوى إقليمية كإيران والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج.
أثناء مقابلاتي، وصف مسؤولون في بغداد سرايا السلام بـ “الميليشيات المتمرّدة” بسبب رفضها التدخل الإيراني وكذلك بسبب رفضها الخضوع لسيطرة الدولة العراقية. تمتعت المنظمة بشبكة واسعة ومتجذرة وبقدرة على تعبئة عشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف – بالإضافة إلى إرث السيد صادق الصدر ومقاومة التيار الطويلة الأمد للتدخل الإيراني – كلّ ذلك من شأنه أن يساعد على تقليص المساحة المتاحة لإيران وحلفائها، فضلاً عن إجبار الطبقة السياسية على أخذ مسألة الإصلاح بطريقة أكثر جدية.
هزّ السياسة العراقية
إلى أي مدى يمكن أن يكون الصدر أفضل أمل للعراق للتصدي لسطوة إيران ولتقليص المساحة المتاحة للفصائل والمجموعات الحليفة لإيران، هو أمرٌ يعتمد على استمرار آية الله علي السيستاتي في مقاومة دعوته لتأدية دور أكبر في السياسة والحكم في العراق. ولطالما سعى الصدر إلى التنافس مع السيستاني للوصول إلى السلطة والنفوذ، تماماً كما فعل والده في تسعينيات القرن العشرين. ففي خلال تلك الفترة، هاجم الوالد الصدر السيستاني وسلطة ما أسماه بالمرجعية وامتيازها، وهي انفصال شكّل علاقات التيار الصدري مع المعارضة الشيعية المنفية التي تسيطر حالياً على الحكومة العراقية.
لم يكتسب الصدر بعد المؤهلات الدينية والعلمية التي تمكّنه من منافسة السيستاني (آية الله العظمى والمرجع الشيعي الأبرز)، إلا أنه لن يحتاج لذلك بعد وفاة السيستاني. وجرت العادة أن يستمرّ تمرير الخلافة من أشهرٍ إلى سنوات ويتم بموجب عملية صناعة قرار جماعية تضم أكبر الأعضاء ضمن المؤسسة الدينية النجفية، بالإضافة إلى مساهمة ونفوذ شبكة السيستاني الخاصة التي تشمل مؤسسات وممثلين دوليين.
ولكن بعد السيستاني، قد لا وجود لصاحب سلطة دينية مسيطر وبارز. إذ إنّ البيئة السياسية والدينية اليوم هي أكثر تفتتاً مما كانت عليه في السابق. ويمكن أن يكون للمؤسسات الضعيفة ومراكز القوة المتعددة والمتنافسة التي ظهرت ضمن المجتمع الشيعي على مدى العقد الماضي من الزمن تأثيراً بعيد المدى على سياسات السلطة في النجف. بالنسبة للصدر، يمكن أن يؤمن هذا الوضع فرصة لملء الفراغ الذي قد تخلفه وفاة السيستاني، بينما تتحدى المجموعات الحليفة لإيران في النجف وفي أماكن أخرى لضمان مقاومة النجف التاريخية لعقيدة ولاية الفقيه التي تعزز نظام الحكم الإسلامي في إيران.
وحالياً، لا بدّ من اعتبار إصرار الصدر الحالي كردة فعل على صعود خصومه والانتخابات المقبلة في العراق، حيث احتدمت المنافسة على السلطة مع ظهور مجموعات ميليشاوية شعبية ذات مهارة قتالية عالية تحظى بدعم جهات نافذة في بغداد والمنطقة. ويمكن أن تكون الرحلات الأخيرة التي قام بها الصدر إلى الخليج جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد ترمي إلى تنويع تحالفات التيار في المنطقة، وكذلك على صعيد محلي في العراق حيث قد يسعى إلى جذب الأصوات والمناصرين بعيداً عن قاعدة الدعم المعتادة. صحيح أنه من المبكر الحديث عن هذا، ولكن، نظراً لماضي التيار، سيظهر الصدر مع تلك الالتزامات كلاعب طموح وفاعل من شأنه أن يهزّ النظام السياسي في العراق ويُحدث تغييراً تشتدّ الحاجة إليه في العراق.
أما على المدى الطويل، فيفتقر الصدر ومنظمته إلى التجهيز العالي للانخراط في الحكم، فهم يفتقرون إلى القدرة على ترجمة التعبئة إلى سياسة عامة ويشكّلون جزءاً من المشكلة التي يعانيها العراق. ورغم ذلك، يمكن للتيار الصدري، من خلال الضغط الكلي على الحشود، أن يحدّد المساحة التي تسمح لثقافة المساءلة أن تنبثق، التي يمكن للإصلاحيين في العراق بعد ذلك أن يعتمدوا عليها مع الدعم الإقليمي والدولي الضروريين.
في الواقع، يتعيّن على الصدر أن يجمع الدعم الضروري من إصلاحيي العراق، بما في ذلك المجتمع المدني الذي أدى دوراً مهماً في إخراج الناس إلى الشارع. ويتعين عليه أيضاً أن يعمل مع الجهات الحليفة للغرب كرئيس الوزراء العبادي، الذي ردّ على احتجاجات مناصري الصدر بالهجوم على الصدر وتحدي خطابه الإصلاحي بحجة أنّ رفاقه ومناصريه مسؤولون عن الفساد وانعدام الاستقرار. سيكون ذلك مهماً لضمان عدم إغفال مطالب مناصري الصدر على اعتبار أن رجال الدين يرونها مطالب مخادعة وحاشدة للقوة، بينما تمنع أيضاً صراعاً شيعياً – شيعياً آخر.
هل يمكن للولايات المتحدة أن تتواصل مع مناصري التيار الصدري بطريقة مشابهة لحلفائها في الخليج وهل يجب عليها ذلك؟ لا بدّ أن يكون ذلك بعيداً. أما الآن، فسيؤدي ذلك إلى تشجيع أعداء أمريكا في العراق والمنطقة ليس إلا، وسيلاقي الرفض القوي من مناصري الصدر. ولكن، صحيح أنّ للتيار الصدري تاريخٌ عنيفٌ مع الولايات المتحدة، إلا أنه يتقبّل التعامل مع جهات غربية أخرى. وأمام مناصري الصدر احتمال أن يصبح تيارهم قوة موازية للجهات الحليفة لإيران، إلا أنّهم يفتقرون إلى الاستراتيجية الجيدة والقدرات العالية على الحكم. بشكلٍ عام أكثر، سيكون على الولايات المتحدة والمجتمع المدني، في مرحلة ما، اتخاذ قرارات صعبة بشأن مجموعة قد تكون أقرب إلى قبول المعايير الدولية وحقوق الإنسان الأساسية ويمكن حثّها على مقاومة الجهات الفاعلة الحاقدة التي تحاول رسم مستقبل العراق والمنطقة.