اخبار فنيه ثقافيه

حين زار وودي آلن منتصف الليل الباريسي أيام الجيل الضائع بين الحربين

معجزة السينما تعيد همنغواي وفيتزجيرالد وجرترود شتين إلى زمننا المعاصر

إبراهيم العريس باحث وكاتب  السبت 3 سبتمبر 2022 11:30

مشهد من “منتصف الليل في باريس” تظهر فيه كارلا بروني ساركوزي زوجة الرئيس الفرنسي الأسبق (موقع الفيلم)

من ناحية مبدئية، ظل كل ما في فيلم “منتصف الليل في باريس”، مجهولاً تماماً لأي كان، حتى المساء الذي عرض خلاله في افتتاح دورة لمهرجان “كان” السينمائي قبل سنوات. في تلك المرة أيضاً، إذاً، أصر وودي آلن على أن يبقى الغموض قائماً من حول فيلمه الجديد، حتى اللحظات الأخيرة. أراد أن يشاهد الناس جميعاً الفيلم في وقت واحد. ومن هنا إذ بدأ عرض الفيلم في الصالات الفرنسية في اليوم نفسه، أصر وودي على أن يكون موعد الثامنة مساء هو الوقت المحدد لبدء العرض الأول في الصالات، كما في المهرجان. نعم كانت ثمة أمور كثيرة متداولة حول الفيلم: أسماء نجومه، حضور كارلا بروني – ساركوزي التي كانت حينها، السيدة الفرنسية الأولى، فيه، وإن في دور قصير… وكون أحداثه تدور في باريس. ومن حول عائلة أميركية، ولكن أي باريس؟ باريس الحاضر كما قال كثر وهم واثقون مما يقولون، أو باريس الماضي -العشرينيات والثلاثينيات- كما قال آخرون، وبدوا بدورهم واثقين تماماً مما يقولون؟

woody filming in paris.jpg

وودي آلن يصور في العاصمة الفرنسية (موقع الفيلم)

“سوف ترون!”
حين كان وودي آلن يسأل عن هذا طمعاً في زوال الحيرة، كان يكتفي بالابتسام قائلاً، “سوف ترون. ربما كنتم جميعاً على صواب وربما كنتم جميعاً على خطأ”. وطبعاً، لا بد من الإشارة هنا إلى أنه كان ثمة، من بين الصحافيين والنقاد، من شاهد الفيلم، وأحياناً في رفقة صاحبه. غير أن هؤلاء القلة من سعيدي الحظ، كانوا قبل موافقة وودي على مشاهدتهم الفيلم -في الأقل كي يتمكنوا من إجراء حوارات ضرورية “ترويجية” معه في شأنه- كانوا يقسمون أمام المعلم وبصدق أنهم لن يكشفوا عن شيء قبل لحظة بدء العرض، وهم فعلوا ذلك حقاً. ولعل هذا ما ضاعف من حس الترقب، لا سيما في فرنسا حيث كان الجمهور الفرنسي العريض يريد أن يعرف في الأقل: أولاً، كيف مثلت “سيدتهم الأولى” تحت إدارة المخرج الأميركي الكبير، وثانياً، كيف صور هذا الفنان عاصمتهم. وأخيراً، إذ عرض الفيلم، انكشفت الأمور كلها. أسفرت عن خيبة بالنسبة إلى الأمر الأول، وعن فرحة غامرة بالنسبة إلى الأمر الثاني. بكلمات أخرى، خيب حضور كارلا الآمال، حتى وإن كان وودي سيقول إنها بدت له ممثلة كبيرة على الرغم من قصر دورها (واعداً، بين الجدية والمزاح بأن يجرب حظه مع زوجها السيد الرئيس في المرة المقبلة)، ذلك أنها تمر في الفيلم عبوراً في دور دليل في متحف ومترجمة تتبادل مع بطل الفيلم أوين ويلسون بعض العبارات لا أكثر، لكن الفيلم أتى عكس ذلك: أحيا آمالاً في أن وودي آلن المقترب من عامه الثمانين لا يزال فناناً كبيراً، ولا تزال مخيلته تشتغل بقوة. وكذلك لم يبدوا مخطئين لا أولئك الذين توقعوا أن يكون الفيلم عن باريس الحاضر ولا الآخرون الذين تحدثوا عن باريس العشرينيات والثلاثينيات، ذلك أن “منتصف الليل في باريس” يدور في الحقبتين معاً… وفي شكل يصعب على كثر غير وودي آلن امتلاك مخيلة كافية لتحقيقه.

… وحين تدق الثانية عشرة
بعد دقائق من الصور الملونة الرائعة لباريس على صخب موسيقى الجاز يعزفها سيدني بيشيت ووقع أغنية “إن رأيت أمي” العابقة بالحزن، نجدنا في باريس اليوم وفي زيارتها، بين آخرين، الخطيبان الأميركيان جيل وإينيز. ثمة قرار بأن يعيشا ويعملا هنا. غير أن الفتاة لا تحبذ هذا القرار كثيراً، فهي متمسكة بأميركا التي صنعت ثروة والديها الغنيين، وتنتمي إلى مجموعات “التي بارتي” (حفل الشاي) اليمينية. أما جيل فإنه مؤلف مسلسلات تلفزيونية، لكنه مثل أبناء ما كان يسمى الجيل الضائع (كتاب أميركا بين الحربين العالميتين من الذين خاضوا التجربة الباريسية في ذلك الحين)، يحلم بأن يكتب رواية وبأن يعيش تلك التجربة التي -طبعاً- باتت مستحيلة، ولكن هل ثمة ما هو حقاً مستحيل في السينما، وفي سينما وودي آلن بالتحديد؟ لأن “المستحيل مستحيل” تحت يدي صاحب “آني هال” و”زيليغ” و”مانهاتن” و”ضربة المباراة”، ها هو ذا هذا الفنان يشغل مخيلته وأفكاره، واضعاً إياها في خدمة أناه الآخر (ذلك أن جيل في الفيلم يكاد يكون، فكرياً وأحلاماً، نسخة من وودي آلن). وهكذا، إذ يكتشف جيل بعد وصوله إلى باريس أن الحياة فيها قد تكون جميلة رائعة، ولكن ليس له أن يتوقع استعادة ما يعرفه أو يتذكره عن باريس أرنست همنغواي وبيكاسو والزوجين فيتزجيرالد، يجد نفسه -كالمسحور- عند منعطف طريق أمام سيارة قديمة ما إن يصعد إلى مقعدها حتى تقوده، ليس في رحلة في المكان، بل في رحلة في الزمان: عند نهاية الرحلة المفاجئة يجد صاحبنا نفسه في باريس القديمة، باريس الحي اللاتيني ومونبارناس ومونمارتر. باريس بيكاسو والفن التكعيبي، في صحبة لويس بونويل وبيكاسو، وفي حضرة أوثانه، من همنغواي إلى جرترود شتاين، مروراً بسكوت فيتزجيرالد وزيلدا (زوجة هذا الأخير).

23ec89bf-ea27-445b-9b0d-45d9bf89f4c8.jpg

ملصق فيلم “منتصف الليل في باريس” (موقع الفيلم)​​​​​​​

حقيقة… ولكن سينمائية
لا يقدم لنا وودي آلن هذه النقلة بوصفها حلماً، ولا بوصفها أمنية مصورة تدور في ذهن صاحبها، بل إنه يقدمها إلينا كحقيقة واقعة، وهو يدرك كل الإدراك أن بصرية السينما تكاد تكون الفن الوحيد الذي يمكن أن يوصل إلى قناعة من هذا النوع. وهكذا، نجدنا مع الفيلم ننتقل من باريس إلى أخرى وكأننا نفتح لنقرأ صفحات صاخبة من كتاب أرنست همنغواي “باريس… عيد دائم”. وهنا، في هذه المشاهد كل ما هو باريسي يشكل جزءاً أساسياً وحنوناً من الذاكرة الرومانسية، موجود، يتوالى أمام أعيننا بالفعل. الرسم واللوحات، الموسيقى والأغاني والرقص المجنون، والتأرجح بين الذهنية الأميركية والذهنية الفرنسية المسماة ذهنية العصر الذهبي. هنا يختلط كل شيء بكل شيء ويبدو سحر باريس في أروع تجلياته، ما يجيب عن سؤال حائر كان شغل منذ أسابيع أذهان الذين شاهدوا ملصق الفيلم حيث يتمشى ويلسون عند ضفة نهر السين ووراءه “باريسان” اختلط بعضهما ببعض، إحداهما في صورة واقعية والثانية في رسم تعبيري، وتظلل الاثنتين معاً سماء رائعة النجوم والألوان مأخوذة من لوحة شهيرة لفان غوغ. وفي يقيننا أن هذا الملصق -على ضوء مشاهدة الفيلم- يأخذ كل معناه، ولكن بعد كل شيء، هل كان يمكن لكل هذه النقلة وكل هذه الرومانسية أن تكونا مقنعتين من دون قصة حب؟