الفنان العراقي عبد الجبار البنّاء… ونحت الهمّ الإنساني
في الكشف عن رؤية الفنان للعالم، لا بد لنا أن نلبّي تلك الدعوة الخفية في البحث عن المنحنى الشخصي لحياة الفنان، وإن تيسر لنا ذلك فإنما هو بالعلاقة مع تاريخ الحركة الفنية العراقية ذاتها ورموزها، إذ برزت أعمال الفنانين العراقيين خارج حدود مشاغلهم الخاصة، كانت المدينة بحاجة إلى يقظة من لون ما، تستطيع أن تحقق من خلالها تدفقها الجديد بعض التوازن بين الملامح الأولى (جذور الحضارة الرافدينية) والضرورات الحياتية، وهكذا بدأت الأعمال النحتية تظهر أمام الأنظار، وحين لامست الهواء الطلق كان لا بد لقدرة التجسيد من أن تنمو بتلك الطاقة الخبيئة في مادة النحت نفسها، وكان لا بد للنحات من أن يصارع امتداد الفراغ اللانهائي، فيقع في التجربة الفريدة ليحقق طموحه في مادة النحت.
ورد في سيرته الذاتية، أن البنّاء ولد بلا صراخ لحظة الولادة عام 1925، في بغداد – محلة باب الشيخ القريبة من مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فظنّ أهله أنه ميت، وجدت لها تلك المناخات البيئية، والمكان منافذ متباينة في أعماله الفنية في وقت لاحق، وطبعت حياته الشخصية ببعض ملامحها، لذلك استطاع البنّاء أن يكشف في مادة الخشب تلك الروحانية ضمن رعيل من الفنانين وضعوا في هذه المادة قبساً من الإنسانية عند استخدامها كخامة للتعبير الجمالي، واستطاع أن ينتزع اعترافاً بقدرته على إضفاء المرونة والحيوية على مادة الخشب، مع زملاء آخرين تأثروا بأسلوب هنري مور في خلق الفراغات والتجاويف في التكوينات المكوّرة والأشكال المنتصبة، ومن هؤلاء النحاتين: صادق ربيع، عبد الرحيم الوكيل، ميران السعدي.
كما لم تكن تماثيل الخشب هي المجال الوحيد لإبداع البنّاء النحتي، فحياة الفنان هي مثال الاستغراق والتفاني في العمل، والتفوق في مجالات الفن التشكيلي التي خاضها، إذ يذكر أنه طرق النحاس، وتعامل مع الحجر والمرمر والطين، الذي يمنح النحات طراوة واسعة في التمدد، لكنه لا يغادر عشقه لمادة الخشب، كخامة لينة، سهلة التشكيل وخفيفة الوزن، وهو مدرك لأسرار جمالها عبر لغتها البصرية، وما تضيفه تكويناتها من عُقد عشوائية وجذور ملتوية، طابعاً فريداً في التعبير.
لقد تعددت مهاراته التي يمارسها تحت إلحاح فكرة محددة هي إنتاج أعمال فنية تنتمي إلى عصره، تلعب دورها في حياة الناس في قمة وجده بالإنسان، الوجد بالحياة يقود النحات عبر مصغراته النحتية إلى العالم الأرحب، لتصبح صوتاً إنسانياً واحداً، تصويراً لإيقاعاته ورصداً لحركته.
ليست المصادفة هي التي جعلت من عبد الجبار البناء فناناً مبدعاً، وإنساناً وموقفاً، واختار أن يكون مرموقأ وفي المقدمة، فمنذ صباه كان يعبث بمواد البناء والصلصال، ويخلق منها مكعبات وأشكالاً وتكوينات لكائنات مختلفة، إذ كان والده (الأمي) الذي لا يقرأ ولا يكتب، يعدّ من أفضل مصممي خرائط البناء، ومن مهنة الوالد اكتسب الفنان لقبه الذي اشتهر به، وعندما يعود عبد الجبار بذاكرته إلى سنوات الدراسة في معهد الفنون الجميلة، فإنما يرجع إلى ثقته بمستواه الفني، واقتناعه بأن الفن يتيح له مجالاً أوسع للابتكار والتعبير الجمالي المتصل بحياة الناس، المرتبط بآمالهم، وهكذا أعدّ نفسه منذ البداية لإنتاج الفن الذي يجد طريقه إلى الناس كنحات، مفضلاً إياه على الفنون الأخرى.
تتلمذ على يد أستاذه جواد سليم منذ دخوله معهد الفنون الجميلة عام 1954، وتخرجه فيه عام 1960، والتلمذة صارت زمالة وصداقة متينة مع الفنان الخالد جواد، الذي طالما يعدد مواهبه فناناً وإنسانا، إلا أنه حينما يتحدث عن تأثير الفنانين العراقيين فيه، فهو يشير إلى تأثره بأعمال خالد الرحال، يقول عن جواد إنه وضع الأسس الأولى في حياته، طوّر إمكاناته، وأضاف له من خبراته في رفع قدراته على الأداء.
في لقاء مع البناء يصف أعماله، أنها ضد الخنوع والاستسلام، حتى تلك اللوحات التي تشترك بأرضيتها القاتمة يودع فيها حمامات الأمل التي يخبؤها بين حنايا الضلوع، ليطلعها متى اتشحت لوحته بالظلمة، منحوتاته من الخشب وثائق ويوميات وخواطر طرية، تذوب على سطوحها لمسات العاطفة وعذريتها. لم يكن الفن بمعناه العام في تقديره منفصلاً عن الواقع الاجتماعي ـ السياسي – الاقتصادي، وبناءً على ذلك شكّل هذا الفهم قاعدة أساسية في جميع منطلقات البنّاء الفنية والاجتماعية.
موضوع الإنسان في الفن منذ حفر رسومه العجيبة على جدران الكهوف قبل عشرة آلاف سنة، حتى عصر اللاشكل والتجريد، هذا الدور لم يكن بسيطاً، لأنه كما يقول فنان الرمزية الفرنسي موروا، إنه يضيف إلى العالم الواقعي ما لا يستطيع أن يقدمه هذا العالم.
على الأغلب تبدو أعمال البنّاء قائمة، منتصبة، من ثنائيات تتجاذب وتتآلف وتتعانق، عاشقة، تدفعها العاطفة إلى الاتحاد بعضها ببعض، ولا شك في أن هناك تباينات في شدة التعانق، واختلاف الحركة، ذلك أن الفنان لا يكتفي بالإحساس بالجمال، بل في التعبير عما يخالجه من مشاعر، وما يعتمل في ذهنه من تصورات ورؤى. لديه ما يمكن أن نطلق عليه اسم (الاختزان الفني) هو كالداينمو الذي يحتفظ بالكهرباء، أو قل كنحلة عسل تمتص رحيق الأزهار، ثم تخرجه بتركيب جديد مستحدث.
موضوع الإنسان في الفن منذ حفر رسومه العجيبة على جدران الكهوف قبل عشرة آلاف سنة، حتى عصر اللاشكل والتجريد، هذا الدور لم يكن بسيطاً، لأنه كما يقول فنان الرمزية الفرنسي موروا، إنه يضيف إلى العالم الواقعي ما لا يستطيع أن يقدمه هذا العالم.
وهكذا بدأت رحلة عبد الجبار الفنية ولم تتوقف إلا بوفاته في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، وهو يبحث في جوهر الإنسان، يستنطق أعماقه الراقدة في جوهر الوجود، غير مهتم بالفكر التجريبي الذي هو صميم التجربة الفنية التي تجسّد الأفكار وتبلور الأحاسيس حتى الخيالي منها. وفي ضوء هذه الحقيقة، انصرف البناء إلى الالتزام بقضايا شعبه الوطنية، وكي يكون الفنان صاحب قضية وطنية يقتضي أن يعكف على استلهام المفردات والرموز في موروثه وحضارته في أعماله الفنية، وهو ما دأب عليه عبد الجبار، وإذا أمعنا النظر في أسلوبه، رغم انفتاحه على تيارات الفن الحديث في العالم، نجده قد اعتمد بديله الخاص في خبراته الفردية المتنوعة، وما تزخر به من ثقافات ورؤى فنية متجددة، تؤهلنا للقول: إنه امتلك هويته الخاصة.
اتخذ عبد الجبار البنّاء من اليسار منهجاً في موقفه السياسي والفكري، فانتمى إلى حزب الشعب الذي كان يرأسه عزيز شريف مبكراً، وتعرض بسبب ذلك إلى الاعتقال وأحكام ثقيلة قادته إلى السجن منذ عام 1953، والفصل من الوظيفة بعد انقلاب 8 شباط/فبراير 1963، ما اضطره للسفر إلى السعودية للتدريس في معاهدها لمدة أربع سنوات. ومن المفارقات المثيرة التي يتناقلها رفاقه السجناء، وحراس السجن الذين أبدوا دهشتهم من طلبات السجين البنّاء، إذ ينفرد لوحده بطلب كمية من الطين أثناء زيارة أمّه يوم مواجهة السجناء شهرياً، وفي السجن نحت تماثيل لسجناء معه، وتمثالا لطبيب السجن الخاص مهّد لعلاقة صداقة معه، امتدت إلى خارج أسوار السجن، بحجّة مراجعة الطبيب في عيادته الخاصة.
يبقى عبد الجبار البنّاء متألقاً في أعماله مثيراً في ذاته، مغروساً في حدائق الحياة حتى يومنا هذا، كان يفعم نفوسنا بنوادره وصوته ومقاماته، كما كان يرجم الشر بومضاته الساخرة، ويقاتل الأذى بالحب والوداد الصافي، كان يطل علينا بوجهه الطفولي الجميل، فيؤنس وحشتنا، ويزيل عنا كروب الأيام كلما داهمتنا بدواهٍ جديدة.
كاتب عراقي