أميركا والعراق والديمقراطية المشوّهة
13 يناير 2022
في خطابه أمام الأمة الأميركية، ذكر الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش، عشية دخول القوات الأميركية العراق في مارس/ آذار 2003، “أنّنا ذاهبون إلى العراق لنجعل منه واحة الديمقراطية بالشرق الأوسط، ونموذجاً سيحتذي به باقي الدول، والأنظمة العربية”… تأتي إلى البال تلك العبارة، وأنت تشاهد الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي الجديد، في التاسع من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري. مشاهد غريبة بإخراج جديد، ومشاحنات تصل إلى حد الضرب والاشتباك بالأيدي، وطعون بأولى خيارات المجلس؛ اختيار رئيس المجلس ونائبيه، الكتلة الصدرية ارتدت الأكفان، بما أوحى أيضاً بأنهم مستعدون للموت من دون أن يتنازلوا عن أنهم الكتلة الفائزة الأكبر، وغير ذلك من مشاهد أثبتت للعراقيين والمراقبين أنّ القادم لن يكون بالتأكيد أفضل من الدورات البرلمانية السابقة.
العراقيون الذين صفّق بعضهم للاحتلال الأميركي عام 2003، حالمين بمستقبل أفضل وبحكم ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة بشكل سلمي وسلس، وأن يحكم بلادهم من يختارونه في الانتخابات الحرّة، أصيبوا بخيبة أمل كبرى، لأنّ أميركا أسّست نظام المحاصصة الطائفية الذي قتل بسببه عشرات الآلاف، وقامت على أساسه مئات التنظيمات والمليشيا المسلحة. أصيبوا بالصدمة وخيبة الأمل، عندما شاهدوا وعلموا أن من جاء ليؤسس الديمقراطية في بلدهم على أنقاض دكتاتورية فضحته وسائل إعلام بلاده، عندما كشفت هذه الوسائل فضيحة جريمة معاملة السجناء في سجن أبو غريب، ثم تطورت الديمقراطية الموردة أميركياً إلى العراق لمنح جنودها والشركات الأمنية العاملة مع قواتها رخصة قتل العراقيين، حتى وإن كانوا في وضع دفاع عن النفس من دون محاسبة. وفي النهاية، تراجع الفرح بالتغيير (أو السقوط) كما يسمّيه بعضهم إلى خيبة أمل، وفقدان الثقة بكل النظام السياسي الجديد الذي أسس بترتيبات أميركية مسبقة، واستشرى فيه الفساد بكل أركانه.
الديمقراطية المشوهة التي حاولت واشنطن تكريسها في العراق أوجدت كلّ ما اعترى المشهد العراقي من ويلات ودمار وتشرذم وفساد وضياع مفهوم الدولة والمواطنة
الآن وبعد 18 عاماً على إحتلال العراق وبحسب، أنتوني كوردسمان، الباحث في المركز العالمي للدراسات الاستراتيجية (CSIS) في واشنطن أنّ “النتيجة النهائية قد تكون خروجاً آخر للولايات المتحدة من العراق، إما بسبب الضغط العراقي أو بسبب قرارات رفيعة المستوى من الولايات المتحدة بقطع وجودها في العراق إلى درجة أنّها لم تعد لاعباً رئيسياً”. ويضيف معللاً: “لم تحدد الولايات المتحدة أبداً أهدافاً استراتيجية كبرى قابلة للتطبيق، أو بذلت جهوداً فعالة لإنشاء عراق مستقر بعد الصراع، أو أظهرت للشعب العراقي أن وجودها يخدم مصالحهم في الواقع”.
الديمقراطية المشوهة التي حاولت واشنطن تكريسها في العراق أوجدت كلّ ما اعترى المشهد العراقي من ويلات ودمار وتشرذم وفساد وضياع مفهوم الدولة والمواطنة. وفي حصيلة أصدرها البنك الدولي عام 2018، كان نصيب الفرد العراقي من الناتج المحلي لبلاده 5.834 دولاراً (تذهب إلى الحكومة)، فيما ذكر البنك أنّ حصة المواطن في البحرين التي لا تصدر نفطاً بحجم تصدير العراق نحو 24 ألف دولار، والكويتي 34.244 دولاراً، والقطري 69.027 دولاراً.
… وُصفت الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي الجديد بأنها “مهزلة”، بدءاً من لبس الأكفان وإنتهاءً بنقل رئيس السن في المجلس، محمود المشهداني، إلى المستشفى بعد ضربه، بسبب رفعه الجلسة من أجل التداول بشأن اعتراض الإطار التنسيقي على عدم احتسابه الكتلة الأكبر، بعدما جمع 88 صوتاً على حساب الكتلة الصدرية التي جمعت 76 صوتاً. كانت الجلسة شكلية على الرغم من أهميتها، والغاية الرئيسة فيها إعادة انتخاب محمد الحلبوسي لرئاسة مجلس النواب مع مساعديه، لتطوى، بشكل شبه كامل، الرهانات التي راهن عليها الإطار التنسيقي للعب على موضوعة الكتلة الأكبر.
من جاء ليؤسّس الديمقراطية في بلدهم على أنقاض دكتاتورية فضحته وسائل إعلام بلاده
تُرى، هل العراق الحالي ووفق الصيغ التي يتم فيها تطويع “الديمقراطية” لرغبة القوى الفاعلة بمليشياتها، أو بحجم فسادها وتكتلاتها متعدّدة الولاءات، يروق لواشنطن؟ وهل سترضى بعد كلّ التجارب المريرة لها في العراق، وما سببته لشعبه من خراب وتراجع واختراقات دولية وإقليمية، وما تكبّدته هي ذاتها من خسائر بشرية واقتصادية، أن تترك الأمور من دون معالجة؟ هذه التساؤلات يجيب عليها كبار المخطّطين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة بأنّ على واشنطن التعامل مع العراق باعتباره هدفاً استراتيجياً رئيسياً طويل الأجل، ومفتاح إعادة بناء نفوذها وقدرتها في الخليج والشرق الأوسط. ستحتاج إلى التركيز على حلّ كلّ مشكلات العراق المباشرة مع إنشاء دولة فعالة، تتمتع باستقرار طويل الأمد. فهل تتمكّن الولايات المتحدة فعلاً من إصلاح أخطائها في العراق، وصولاً إلى إنشاء دولة فعالة قوية ومركزية، بما يضمن قوة نفوذها في الشرق الأوسط؟