مقالات

شيوخ «التيك توك» وضرورة ضبط الفتوى

الخميس – 17 جمادى الآخرة 1443 هـ – 20 يناير 2022 مـ رقم العدد [15759]

فهد سليمان الشقيران كاتب وباحث سعودي

لم يكن اضطراب عالم الفتوى وليد اليوم؛ وإنما استخدم هذا الباب الشرعي عبر التاريخ لأغراضٍ سياسية. سجالات مشهودة ومكتوبة في المدونات الفقهية والتاريخية بين المجال الذي يؤسس للفتوى باعتبارها الخطاب المنوّه بالحكم، وبين من يستثمر في مجال الاجتهاد لنزع الناس عن الصدور من مظانّ المؤهلين، وسوقهم نحو كتائب «المجتهدين» المزعومين الصادرين عن أقوالهم الشخصية مما يجعل الاختلاط بين الرأي الشخصي (السياسي، والفكري) وبين الديني شائعاً.
لعل القارئ لمدونات التاريخ وبخاصةٍ في مفاصله السياسية يعثر على كمّ مهول من الفتاوى الغرائبية لنقرأ في إرث «الفتنة» وما وضع حولها من أقوال وزيّف معها من أسانيد ورتّب أثناء جلبتها من مرصوف القول وزيف الثناء أو الذم، وهذا جزء لا من تاريخ المسلمين فحسب، بل يمكنك قراءة ذلك في تاريخ البشرية كله، فالناس ميّالون نحو نزعات الانقسام، كما يقول الفيلسوف ديفيد هيوم، لكن حين يساق لهم من يضبطهم فإنهم ينتظمون، ولهذا فضّل هيوم الملكية على سائر نماذج الحكم في التاريخ، ولهذا مبحث آخر.
والدرس المأخوذ من التجربة التاريخية للتصدي للفتيا أو إصدار الفتوى أن انفلاتها يؤثر كثيراً على مصالح الناس ودنياهم، فنزع الشرعية، أو إصدار حكم مما تنوء بثقله الجبال، أو الخوض في المسائل الكبرى التي لو عاصرها الصحابة لجُمع لها أهل بدر، إنما يجعل الواقع ودنيا الناس في حالٍ من الاضطراب، وقد شهدت المؤسسات الدينية عبر تاريخها صراعاتها مع المناوئين، يمكن الاستئناس بما كتب محمد نبيل ملين في كتابه: «تاريخ وبنية المؤسسة الدينية في السعودية»، أو كتاب حلمي النمنم: «الأزهر الشيخ والمشيخة»، مهما اختلفت مع طروحاتهما غير أن الذهاب نحو فهم المؤسسة الدينية وأدوارها الجيدة من أهم ما يمكن؛ بغية استيعاب المهام التي على السياسي القيام بها من أجل تمتين مؤسسة الفتوى، وإعادة الاعتبار لها بوجه الفوضى المشهودة بالعالم الإسلامي اليوم.
من المخزي أن يصف البعض قرارات ضبط الفتوى وربطها بالمؤسسة الدينية بأنها ضرب مستوى الحرية، أو التدخل في حق الإنسان بالتعبير عن رأيه، وهذا يعبر عن جهل بمفهوم الفتوى نفسه. إن مسافة كبيرة تقطع بين الرأي الفكري المتاح والمحفوظ للإنسان، وبين الفتوى التي تعبر عن «رأي الشريعة» بهذه المسألة أو تلك؛ ولذلك قلنا مراراً إن على الخطيب أن يكتب رأيه بمقالة أو بكتاب من مليار صفحة، لكن ليس من حقه استغلال المنابر لمعاركه الفكرية، كذلك الأمر بالنسبة للقاضي، والمفتي، وهذان الأخيران وردت نصوص فيهما على مستوى كبير من صحة الإسناد بالوعيد لمن قضى أو أفتى بهواه، ولذلك فإن المفتي إنما يكتب خطابه صادراً عن الشريعة ضمن أسس وأصول وضعت في مدونات الشريعة وكتبت، بل وصف ابن القيم عمل المفتي بأنه «توقيع عن رب العالمين»، في كتابه الشهير: «إعلام الموقعين عن رب العالمين».
ولم يكن تأسيس عمل «الفتوى» ضمن صرحها المؤهل موضع ازدراء من قبل المنشقّين السياسيين عبر التاريخ، بل تواطأت آراء أخرى مع أولئك، فطوال قرنٍ من الزمان نزعت حركات الإسلام السياسي نحو السخرية من الفتوى، ومحاولة زلزلة الصرح الديني باسم نزع الكهنوتية (ليس لدى الإسلاميين مشكلة في استخدام مفردات تاريخ الأنوار لأغراض سياسية) أو عدم ربط الفتيا بالسياسي، علماً أن للسياسي دوره المنصوص بالشريعة في تحديد الفتوى وضبطها، بل نصّ عدد من الأئمة بأن رأي السياسي هو المرجّح في اختيار قولٍ فقهي إذا احتدم الخلاف بين أهل الفتيا، فرأي الحاكم يرجّح في مظانّ الخلاف.
كتب لا تحصى دوّنت من قبل «كتائب المثقفين الإخوان»، أو «مطايا الإخوان» حول السخرية من المفتين، مستخدمين حجتين اثنتين؛ الأولى: الضخّ في موضوع «الاجتهاد» وذلك بغية زحزحة الفتوى نحو «الرأي السياسي»، وهذه الرحلة نحو الزحزحة يمكن رصد ذروتها في عهود «الكاسيت» التي ملأت العالم الإسلامي، المليئة بالزعيق، وإذا اشتدّت أزمة المنشقين المارقين (إخوان، صحوة، سرورية، خمينية) مع السياسي اتجهوا صوب المؤسسة الدينية، وثمة شهادات من داخل الحركة الإسلامية (شهادات فضائحية موجودة على اليوتيوب بين شخص من حزب التحرير ضد آخر من الإخوان) أنهم في جلساتهم الخاصة يسخرون من رموز الفتيا ومن المفتي العام، ومن الصدور عن هذه المؤسسات.
الحجة الثانية: أن عهود الإسلام الأولى أو «صدر الإسلام» باعتباره حجّة كما في حديث «سنن المهديين من بعدي»، لم يكن به مفتٍ، وهذه حجّة ظاهرها ديني وقد ردّ عليها المتخصصون بكل سهولة باعتبار عهد المسلمين بالإسلام لا يزال قريباً، وبأن الصحابة كانوا يصدرون عن بعضهم البعض كما في استفتاء عائشة عن أحكامٍ، أو سؤال ابن عباس في التفسير، وللتوسع حول مفهوم الرأي السياسي، والفتوى الشرعية، انظر كتاب ابن القيم: «المنار المنيف، في الصحيح من الضعيف».
قبل أيام أعلنت دولة الإمارات عن قرارٍ تاريخي استثنائي، وأعتبره من أهم القرارات التي صدرت في العالم الإسلامي في الفترة الأخيرة حول ضبط الفتوى، ونقلت وكالة الأنباء الرسمية دعوة: «مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي لأفراد المجتمع ومؤسساته كافة بعدم الخوض في مسائل الفتوى الشرعية من دون ترخيص أو تصريح»، تأتي التوصية على: «ضوء ما لاحظه (المجلس) من تجاوزات ومخالفات في تصدر بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي للفتوى الشرعية بغير ترخيص أو تصريح، والجرأة على إصدار الأحكام الشرعية في المواضيع الدينية والاجتماعية والأسرية وغيرها، خاصة فيما يتعلق بالتكفير واستغلال نصوص الدين في التعدي على الغير مما يؤدي إلى انتشار الكراهية والطائفية والتكفير والتشدد والتطرف ويتنافى مع سماحة الدين الإسلامي الحنيف ويعد منافياً للسياسات الوطنية لدولة الإمارات التي تؤكد على قيم التسامح والتعايش والاعتدال».
هذه التوصية ضرورية، فثمة من فتح دكاكينه للإفتاء في كل مكان، حتى على منصات «التيك توك»، تتداول وتدوّر فتاوى لا تعبر فقط عن مطامح سياسية، ومخططات إرهابية، وإنما عن جهلٍ مريع. إن خطوة مجلس الإفتاء الإماراتي تجعل الفتوى محفوظةً باعتبارها من أبواب الشريعة التي لا يخوض فيها الخائضون، ولا يتسلى بها المعاتيه من الإرهابيين، بل لها أهلها وأسسها وضوابطها. إن هذه الدعوة تعيد للفتوى هيبتها المعروفة في مدوّنات الشريعة، يكفي أن نقرأ عن باب الفتوى وشروطها وضوابطها لنفهم أن ضبط الفتوى هو جزء لا يتجزأ من صيانة الشريعة من العابثين والمنشقين والمارقين من القتَلة والإرهابيين.