القاضي اياد محسن ضمد
غالبا ما تتضمن القوانين العقابية نصوصا تعطي لمحاكم الموضوع صلاحية تقدير الأدلة وترجيح بعضها على البعض كذلك صلاحية تحديد عقوبة المدان سواء بالعقوبات المقيدة للحرية؛ الحبس او السجن، او العقوبات الواردة على الذمة المالية كالغرامة واختيار الأنسب منها فاغلب النصوص تتضمن حدا اعلى وحدا ادنى للعقوبة واغلبها تتضمن نصوصا تخييرية للقاضي بين العقوبة المقيدة للحرية او الغرامة او بكليهما وهذا الفضاء القانوني المفتوح والافق الواسع الذي يضعه المشرع بين يدي محكمة الموضوع يسمى بالسلطة التقديرية للمحكمة.
وهذه السلطة هي حالة ذهنية ذاتية نابعة من ضمير القاضي النقي وتفكيره المنطقي والتي يكشف بواسطتها الحقيقة من خلال تقديره للأدلة المطروحة في الدعوى والحكم على اساسها وبمعنى آخر هي الحرية المتروكة للقاضي بمقتضى القانون لاختيار ما يراه اكثر عدالة بين مجموعة خيارات على مستوى تقدير الأدلة وتحديد العقوبة الا ان على المحكمة ان تفهم أهمية هذه السلطة وخطورتها وتنزلها منزلها الصحيح بما يحقق العدالة كونها تكليفاً ومسؤولية يجب استخدامها الاستخدام القانوني الامثل لتحقيق غاية المشرع، ورغم اتساع مساحة هذه السلطة فانها ليست مطلقة لانها محددة بالحدود الدنيا والعليا التي يفرضها النص القانوني وهي كذلك تخضع لرقابة محاكم التمييز.
من هنا نفهم لماذا تصدر محاكم الموضوع أحكاما لا تصل الى الحد الاعلى للعقوبة وتنزل بعقوبة الاعدام الى السجن المؤبد او المؤقت وتنزل بعقوبة السجن المؤقت الى الحبس وكذلك نفهم لماذا تأخذ المحكمة بالظروف التي تدعو الى التخفيف او الرأفة بالمتهم او التشديد معه، ليس ذلك فحسب بل ان للمحكمة ان تنزل بالعقوبة من حدها الاعلى ومن ثم تقضي بإيقاف تنفيذ العقوبة عند الحكم بجناية او جنحة بالحبس مدة لا تزيد عن سنة اذا رأت من ظروف الدعوى والمتهم وماضيه ما يبعث على الاعتقاد انه لن يعود الى ارتكاب جريمة جديدة.
ومثل هذه السلطات التقديرية نصت عليها المواد 131 و132 و144 من قانون العقوبات العراقي هذه الصلاحيات والسلطات التقديرية ما هي إلا اقرار من المشرع بأنه غير قادر على الاحاطة بظروف كل قضية وملابساتها وظروف كل متهم وانه في احيان كثيرة لا يستطيع ان يضع عقوبات محددة سلفا بدون حدود عليا ودنيا وحيث ان القاضي هو الاقرب للواقعة الجرمية وهو المطلع على اشخاصها وظروفها وملابساتها وبناءً على ذلك فهو الاقدر على تحديد العقوبات ومراعاة الظروف اكانت مخففة او مشددة.
النظم القانونية التي وسعت من السلطات التقديرية لمحاكم الموضوع هي التي أخذت بمذهب الإثبات الحر وباعتقادي من ضمنها النظام القانوني العراقي ممثلا بقانوني العقوبات والأصول الجزائية فالمواد من 214 الى 220 الأصولية تعطي السلطات التقديرية للمحكمة في تقدير قيمة الاعتراف والشهادة وكافة محاضر التحقيق ومستنداته ومن ثم بناء قناعتها وإصدار حكمها ان كان المتهم قد ارتكب الفعل المنسوب اليه والعقوبة المناسبة بحسب ادلة الدعوى وظروفها إلا أن هذه السلطات ليست مطلقة انما قيدتها المادة 212 بعدم جواز استناد الحكم الى دليل او ورقة لم يطرح للمناقشة ولم يشر اليه في الجلسة وعدم جواز الحكم بناءً على العلم الشخصي للقاضي ومثل هذه المادة تشكل قيدا على السلطة التقديرية للمحكمة وتتيح لمحكمة التمييز نقض القرارات المستندة الى السلطة التقديرية وهي قيد على هذه السلطة، فقد يكون الحكم المبني على السلطة التقديرية للقاضي مبنيا على احساس خاطئ او دليل خادع وطالما ان محكمة التمييز تمتلك صلاحيات نقض الأحكام فانه من العدالة أن تمتلك صلاحيات تقييد السلطات التقديرية لمحاكم الموضوع ونقض القرارات المستندة لها متى ما كانت مجافية للعدالة والمنطق ما يعني ان المشرع العراقي أعطى السلطات التقديرية الواسعة لمحاكم الموضوع إلا أنها سلطات مقننة بحدود ما نص عليه القانون وما تراه محكمة التمييز مناسبا.