زكي شيرخان
يصعب على المتابع والمحلل الفهم التام لما يجري في السعودية وذلك لشحة المعلومات. جل ما يُعرف هو القاء القبض على مجموعة من الأمراء والوزراء وكبار رجال الأعمال للتحقيق معهم بتهمة الرشوة والارباح غير المشروعة والاختلاس والاستيلاء على الممتلكات العامة وغيرها من أوجه الفساد المالي. صدرت أوامر إلقاء القبض من قبل “لجنة مكافحة الفساد” برئاسة ولي العهد يوم السبت الماضي(4/10/2017). لم تكن هذه هي المجموعة الأولى التي تم احتجازهم وبدأ التحقيق معهم وتجميد ما يمتلكون، فقد تم قبلها زج بعض الدعاة والمحسوبين على التيار الديني في السجون. حتى الآن، بلغ عدد المحتجزين أكثر من مائتي شخص، وتم تجميد ما يقرب من ألف وسبعمائة حساب مصرفي. وهناك من المؤشرات ما يشي بأن المزيد من الأشخاص سيتم استدعائهم للتحقيق أو الزج بهم في المعتقلات.
من غرائب ما جرى هو الأمر الهاتفي الذي تلقاه رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري والذي يحمل الجنسية السعودية، من ولي العهد محمد بن سلمان للحضور الى الرياض على عجل. امتثل الرجل للأمر فوراً، وهناك (أقيل). أُجبر على تلاوة استقالته من على شاشة “قناة العربية” السعودية. النص كتب بـ (اللغة السعودية) من حيث المصطلحات السياسية والاسلوب، ولم يتردد من حرر خطاب (الإقالة) من جعل “حزب الله” وإيران هما السبب وراء التنحي، كما لم ينس أن يضيف شيئاً من الإثارة بادعاء أن حياته (الحريري) معرضة للخطر.
لم يصدر حتى من المقربين من دوائر صنع القرار في السعودية ما يوضح أحداث تلك الليلة، ناهيك عن المؤسسات الرسمية. حتى الصحف الغربية كانت ضنينة بالمعلومات والتحليلات بالرغم من مرور أسبوع على الحدث. إن كانت الصحف الفرنسية -كما يرى أحد المحللين- لا تستطيع أن تخوض في الموضوع حتى لا تشوش على المساعي التي يبذلها الرئيس الفرنسي لإعادة سعد الحريري الى لبنان كما ترغب كل الاطياف اللبنانية، فما بال الصحف البريطانية والأميركية؟
المعلومات المتداولة، والإشارات الواردة من هنا وهناك، توصل المتتبع الذي يكتفي بها الى التكهن لا غير. وعندما تغيب المعلومة فليس هناك إلا الاكتفاء ببعض الملاحظات التي قد تساعد على بناء فهم لما يجري:
الأولى، ما يحدث في السعودية هو شأن داخلي بحت، لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب بالمنطقة، ولا حتى بالعالم. ببساطة شديدة هو صراع بين أجنحة مختلفة ممن تبقى من أولاد عبد العزيز، وأحفاده. هذا الصراع قديم، وأخذ أشكالاً متعددة في مراحل مختلفة. وكلما طفى على السطح مُلئت الأفواه بأموال النفط، مما ساعد على امتصاص نقمة بعض أفراد العائلة، وإلهائهم عن التفكير في المُلك. وضع السعودية، منذ تولي سلمان الحكم، وتعين ابنه محمد ولياً للعهد، مختلف. مما دفع الرجل (الولي)، أو آثر أسلوب الصدام مع خصومه والمعترضين على توليه المُلك في القريب العاجل.
صحيفة بوليتيكو الأمريكية نقلت عن مسؤول في البيت الأبيض أن جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأميركي قام بزيارة سرية للسعودية لمدة أربعة أيام (25-28/10/2017) ورافقته نائبة مستشار الأمن القومي دينا بأول. هذه الزيارة كانت قبل أسبوع واحد فقط من “ليلة القبض على الفساد” على حد التعبير الذي استخدمته صحيفة “سبق” السعودية. الزيارة التي سبقت القبض على الأمراء والوزراء دفع بالبعض إلى الاعتقاد بأن كوشنر أطلع ولي العهد على محاولة انقلابية سيقوم بها وزير الحرس الوطني متعب بن عبد الله بالاتفاق مع محمد بن نايف المُعفى من ولاية العهد وبتأييد بعض افراد العائلة الحاكمة. هذا ربطٌ بين الحدثين من الصعوبة قبوله. في مثل هكذا حالات هناك قنوات اتصال أمنية يمكن اللجوء إليها، ولا يحتاج لمستشار كبير للذهاب بنفسه. كوشنر دائم الزيارة للمنطقة خاصة مصر وإسرائيل ضمن مسعى أميركي لإيجاد صيغة حل للقضية الفلسطينية فيما يطلق عليه “صفقة القرن”.
محمد بن سلمان يسعى بدأب للتخلص من كل مركز للقوة داخل الدولة ليستتب له الحكم من دون عوائق. ولم يجانب الصواب من قارن فعلته هذه بما قام به صدام عام 1979 في قاعة الخلد عندما تخلص من قيادات حزب البعث.
الثانية، تعرضت السعودية على مدى عقود وما زالت لسيل من الانتقادات عبر وسائل الاعلام الغربية والمنظمات الدولية بخصوص انعدام الحريات، والتشدد الديني، وما تعتبره المعايير الغربية وحشية في إيقاع العقوبات كالرجم وقطع الرقاب. ومنذ أحداث 11/9 اُتهمتْ السعودية بنشر الأفكار الوهابية المتشددة، وتمويل الإرهاب. وفي محاولة لرسم صورة مغايرة لما هو دارج في العالم والغرب على وجه الخصوص، قام ولي العهد ببعض الخطوات لتغير النمط التقليدي للحياة السعودية. على سبيل المثال، إيجاد أماكن ترفيهية قريبة من النمط الغربي؛ تغيير المناهج الدينية التي تدرّس في المدارس؛ المزيد من الانفتاح. هذه كلها اُعتبرت هزة أصابت المجتمع شديد التحفظ ولقيت معارضة داخلية من الخطورة تجاهلها، في الوقت الذي لقيت استحسانا من الغرب مشوب بشك من إمكانية تطبيق هذه الخطوات في مجتمع شديد التزمت. لكن الدلائل تشير على أن ولي العهد ماضٍ في نهجه، ويريد -قبل توليه الحكم- أن يسوّق نفسه كملك يحكم في القرن الحادي والعشرين وليلقى قبولا غربياً.
الثالثة، منذ عام تقريبا تم تسوية الأوضاع في لبنان بالاتفاق على أن يكون ميشيل عون، غير المرضي عنه سعودياُ، رئيساً للجمهورية، وسعد الحريري رئيساً للوزراء وهو أحد أهم أذرع السعودية في لبنان. شارك في الحكومة معظم الأحزاب اللبنانية. لم تعترض السعودية على هذه (الصفقة) على أمل أن يستطيع الحريري فك ارتباط عون بحزب الله وابعاده عن سوريا. ولما لم يستطع بدا غضب السعودية منه يظهر على شكل تغريدات لمسؤوليها على موقع “تويتر”. قررت أن تستبدله بأشرس منه، فأجبرته على تقديم استقالته، واحتجزته. واختارت الوقت ليتزامن مع “ليلة القبض على الفساد” لسببين:
1. خلق أزمة بين لبنان والسعودية سرعان ما ستأخذ بعداً دولياً. مثل هكذا وضع سيشغل وسائل الاعلام ويثير ضجة صاخبة، وهذا سيصرف الأنظار عما يدور داخل السعودية. صرف الأنظار اسلوب سياسي قديم تقوم به كل الدول تقريباً للتغطية عن فعل تريد إتمامه بهدوء.
2. أنْ تُحرك الداخل اللبناني ضد حزب الله، تماشياً مع الحملة التي تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل.
بالطبع، لا يمكن إغفال وجهة النظر التي مفاداها أن سعد الحريري حامل الجنسية السعودية، وأحد مالكي شركة “سعودي أوجيه” (تم إعلان افلاسها في منتصف 2017) قد يكون أحد المتورطين في الفساد المالي، وشمله قرار (التطهير) وكان لا بد أولاً تجريده من حصانته كرئيس للوزراء في لبنان كي تتم بحقه الإجراءات القانونية. كل هذا صحيح، ولكن كان بالإمكان تفادي هذا الامر ولو مؤقتاً، فليس من المعقول أن كل الفاسدين قد تم وسيتم استدعائهم والتحقيق معهم واعتقالهم ومصادرة أموالهم آخذين بنظر الاعتبار أن الفساد -كما يرى السعوديون انفسهم- يكاد يشمل الجميع… فهل سيشمل الاستدعاء والتحقيق ليس الملك سلمان نفسه، لكن أولاده؟