د. نادية هناوي
جميل أن نصطنع حوارات نحاول عبرها، أن نتبادل الآراء ونتقاسم الهموم ونعالج القضايا ونحدد التطلعات ونوجه الأفكار متوافقين أو متعارضين، متضادين أو متحابين، طيعين أو مشاكسين .. لكن الأجمل من ذلك أن نخطط لتلك الحوارات مسبقا واضعين النقاط بإزاء ما سنأتي على نقاشه ومحددين المراتع التي سيتناور فيها المتحاورون ومهيئين المواضع التي ربما سيتخالف حولها المتناقشون، وقبل هذا وذاك علينا أن نحدد سياقات الحوار الفكرية من أين نبدأ ؟ وعلام نرمي الوصول؟ والى أين نبغي الانتهاء ؟ وما الغايات التي نريد من جراء هذا الحوار أن نظفر بها ؟ وما الكيفية التي سنعالج بها الإشكالية؟ وما الوقت المستقطع من تعاقبية الزمان الذي سيتيح للمتحاورين النقاش في المشكل والحديث حوله ؟. ومثل هذه الترتيبات الاستباقية ضرورية كما أن الاستشراف المبدئي لآفاق التحاور لازمة، لكي يغدو الحوار ايجابيا ونافعا، وحتى يؤدي الغرض المطلوب منه والمتمثل في فك الاشتباك الذي ينطوي عليه المشكل المتحاور في خصوصياته. أقول هذا في إطار ما اعتدنا أن نشاهده من برامج ذات صيغة تحاورية أو حوارية تعرضها هذه القناة الفضائية أو تلك وفيها يتم استقدام متحاورين اثنين أو أكثر، للخوض في حوار بإزاء موضوع ما، وعادة ما يستغلق هذا الحوار على مقدم البرنامج وضيوفه الذين يراد منهم أن يكونوا قادرين على لململة شتات المشكل المراد حله أو ربما محاولة حله. وهنا نتساءل ما بالنا بالبرنامج الذي يغدو بمقدمه ومحاوريه شبيها بحوار الطرشان عقيما في تحقيق التواصلية بين المتحاورين وهم يناقشون الأفكار وبالشكل الذي يكون فيه المستضاف غير متواصل مع المستضيف أو غير مقنن لحواره معه ؟ !! فتنتفي الغائية الإعلامية وتضيع الفائدة الافهامية، ما بين المتحاورين. أما المشاهد فلا طائل أمامه سوى أمرين فإما أن يواصل الإنصات وهو خالي الوفاض بليد الهمة غير منتفع ولا متضار. وأما أن يقطع إنصاته منتقدا ومنتفضا، وقد ضاقت نفسه بالذي يشاهده مؤكدا انه لم ولن ينطلي عليه تسويف أو تلاعب، لكنه في الآن نفسه سيضر نفسه لأنه قضى وقته بلا فائدة وسمح لأذنه أن تتخبط مع تخبط المتحاورين. فيا ترى ما الغاية التي تبغيها القنوات الفضائية من هكذا برامج حوارية ؟ وقبل ذلك ما الأسباب التي تجعل هذه البرامج على هذه الشاكلة اللا افهامية؟ ليس صعبا الحصول على إجابة شافية إذا ما علمنا أن ما يمنح من وقت مستقطع لمن يدير برنامجا حواريا سياسيا كان أو ثقافيا هو وقت ضيق نسبيا بينما تكون الغاية كبيرة لتغدو المفارقة هائلة ما بين ضآلة الوقت من جهة؛ وعظم المهمة من جهة أخرى. ومن المفارقة أيضا أن ينتهي البرنامج الحواري وقد تحول المتحاورون إلى مؤتمرين واضعين إستراتيجية ومحددين مفاصل تلك الاستراتيجية ومشخصين تجلياتها ومحددين أطرها ومفاوزها بلمحة عين وضرب من خيال. فهل هو ضحك على ذقون المشاهدين أم هو استفزاز لأذهان الواعين الذين لن يمر عليهم أمر هذا التلاعب المتأدلج وزيف هذه الحوارية المستغلقة. ولعل أكثر القنوات التي يضيق مقدموها ذرعا بقصر الوقت وعظم المشكل المراد مناقشته، هي قناة الحرة عراق التي كثيرا ما تقدم برامج طازجة بموضوعات راهنية، لكن عيبها أن الوقت الممنوح لمقدميها، ومن يحاورونهم محدود جدا إلى درجة أن المتحاور الواحد ما يكاد أن ينهي حديثه، حتى يباغته الآخر بحوار مقطوع في فكرته، عن حوار الأول ومسلوخ من سياق حواري غير مطروق أصلا من قبل أي أحد من المتحاورين الحاضرين، الأمر الذي لا يؤدي إلى تقاطع الأفكار فحسب، بل إلى تشتتها استماعا وحوارا واستقبالا وردا. أما إذا أردنا تشخيصا لهذه الظاهرة وفي حدود البرامج الثقافية فالمشكلة أدهى وأمر، كون المقدم لها، وهو يحاول اللعب في ساحة الثقافة سيبدو متثاقفا غير قادر على الانسلاخ من إطاره الحزبي، فيراوغ كي لا يظهر تلك الادلجة، ويناطح الوقت المستقطع باغترار وهو يحاول الاتصاف بالعدالة في توزيع الأدوار بين ضيفيه أو ضيوفه ضمن مساحة دقائق معدودة لا تغني بفكرة يقدمها البرنامج ولا تفصح عن جدوى ، وبذلك يضيع الوقت والمشكل المتناقش حوله لم يحل وبذلك يعجز المتحاورون عن بلوغ نقطة يتفقون عليها أو محطة يختلفون عندها. وكناطح صخرة يوما ليوهنها، يظل المشكل المراد حله عويصا، إن لم يصبح أكثر عصيانا بسبب الادلجة التي تزيد الحوار إشكالا، وكذلك التثاقف المتصنع لن ينفع في خلخلة أركان المشكل، ولا التحاور المسلوق بوقت قياسي يهد بنيانه، وهكذا يصبح المشكل مشكلات فيتعقد أكثر مما كان عليه قبل عملية سلقه في البرنامج التحاوري هذا وعلى ناري الادلجة المناورة بالخفاء والمثاقفة الواهمة بعماء.. إن ما نبتغيه من البرامج الثقافية، وما نتطلع إليه حقا هو أن تموضع هذه البرامج لنفسها إطارا يحقق لها ما تبغي التحاور فيه والنقاش حوله، متجردة من ثوب الادلجة النافض لكل ما هو أصيل أولا، ومتحررة ثانيا من مراوغة التثاقف الواهي والمكشوف، ومتبرمة ثالثا من زيف الحوار المسلوق سلقا بلا طعم ولا رائحة.. وإلا كيف يراد من متذوق هذا الحوارـ اي المشاهد ـ المباركة عليه وقد أضاف إلى نفسه مشكلا غير المشكل الذي جاء تواقا ليجد له حلا، فيخرج من هكذا برنامج وقد أدرك طبيعة السلق الجزافي للحوار . وسيكون مقدار العجب والذهول الذي ينتهي بالمشاهد كبيرا إذا ما علم أن بعض المتحاورين الضيوف الذين استقدمهم المحاور المستضيف، هم في الأصل متأدلجون معه ومتحزبون مثله وانهم أحباء غير متغارمين.. ولكونهم على قدر متقارب في التثاقف تطلعا او انغلاقا لذلك يكون قربهم من المشكل المراد التحاور فيه بعيدا أو بالأحرى أن المشكل نفسه هو في الأصل بعيد عنهم ولا يمت لهم بصلة. وبذلك يضيع الحابل بالنابل أو كما يقال في المثل البغدادي( يضيع الخيط والعصفور) فلا البرنامج ينتهي إلى طريق واضح الوفاض، ولا المشاهد يعرف جذر المشكل، او يميز ساقه من أغصانه بعد أن اختلطت لديه الأفكار باختلاط النقاش وتخبطت عنده الحوارات بطرش القائمين على التحاور.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.