1

مظلوميّة الشّيعة: حقيقة أم ذريعة للسّلطة؟ (1)​

07-09-2022 | 06:35 المصدر: النهار العربي

تظاهرة عراقية في 2019 ترفع صورة للمرجع الشيعي علي السيستاني مع شعاره "المجرّب لا يجرّب" الذي يعبّر عن استيائه ممّن تسلّم الحكم في العراق بعد 2003.

تظاهرة عراقية في 2019 ترفع صورة للمرجع الشيعي علي السيستاني مع شعاره “المجرّب لا يجرّب” الذي يعبّر عن استيائه ممّن تسلّم الحكم في العراق بعد 2003.

A+A-حميد الكفائي*
تثير الجماعات الدينية في العراق قضية “مظلومية الشيعة” باستمرار، لاستخدامها ذريعة للسلطة والهيمنة، بهدف الاستفادة المادية والمعنوية والتهرب من المسؤولية الأخلاقية والقانونية، عن الفشل والفساد والقصور والتقصير، التي سادت أثناء توليها السلطة منذ 18 عاماً. 
لكن السؤال المهم هو: هل هناك فعلاً مظلومية شيعية؟ بعبارة أخرى، هل كان هناك تمييز ضد الشيعة في العراق؟ ومتى بدأ هذا التمييز إن وُجد؟ هذا ما سأجيب عنه في مقالات تعتمد الموضوعية والأمانة العلمية والتأريخية، ولا هدف منها سوى تبيان الحقائق للرأي العام العراقي والعربي، وللشيعة أنفسهم، الذين صارت قضيتهم وسيلة للقفز على السلطة ونهب المال العام.
بدأ الحديث الفعلي عن “مظلومية الشيعة” في العراق بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، وقبلها لم يتحدث أحد قط عن هذا الموضوع، ولم تُثَر هذه القضية إلا لِماماً في بعض المجالس الدينية الشيعية الخاصة، وعبر أشخاص لديهم هوس، أو وعي، طائفي أو ارتباط بإيران. وسبب عدم اهتمام الشيعة العراقيين بها، هو ببساطة لأن شيعة العراق لم يشعروا بأي مظلومية، وكانوا يمارسون حياتهم وأدوارهم المختلفة كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات مع باقي المواطنين، يُوَظَّفون في دوائر الدولة ويدرسون في مدارسها وجامعاتها ويتمتعون بالمتوافر من خدماتها، تماماً كما يفعل الآخرون. 
لكن هناك من حاول تأجيج هذه المسألة لأهداف سياسية، وهناك دولة أخرى، هي إيران، تقف وراءها، سواءً في ظل نظام الشاه، أم في ظل النظام الثيوقراطي الحالي، وأهدافها واضحة، وهي إضعاف العراق، الذي تعتبره خطراً عليها، أو منافساً لها، والانفراد عالمياً بتمثيل الشيعة كي تستخدم الأقليات الشيعية في البلدان الأخرى، لإثارة القلاقل وابتزاز الدول المختلفة وإضعافها، خدمة للمشروع الأيديولوجي التوسعي. 
ومن أجل تحقيق هذا الهدف الذي تقف وراءه أسباب سياسية وجيوسياسية، واقتصادية وأيديولوجية، فإن إيران تستهدف ليس العراق فحسب، بل أذربيجان الشيعية أيضاً. 
قرأت أخيراً مقالة مقتضبة للقيادي في حزب “الدعوة الإسلامية” العراقي صادق حميدي الركابي، الذي كان نائباً وسفيراً ومستشاراً لرئيسي الوزراء السابقين نوري المالكي وحيدر العبادي، يستعرض فيه “إنجازات” الحركة الإسلامية العراقية في فترة ما بعد 2003، التي قال إنها لم تتحقق للشيعة منذ عهد الإمام علي! 
واختصر الركابي الحركة الإسلامية بفصيلين اثنين، هما حزب “الدعوة” وغريمه “المجلس الأعلى” “ومن خلفهم السيستاني وإيران” بحسب قوله. 
كانت المقالة مليئة بالمغالطات والمتناقضات والمبالغات، التي لا تليق بشخص تولى مناصب عليا، سواء حكومية أم حزبية، وتنم عن عقلية طائفية انتهازية، لا تعير وزناً لمصالح الشعب العراقي وتماسك الدولة أو قوتها أو علاقاتها الإقليمية والدولية. فالدولة المنقسمة تبقى دولة ضعيفة ومتخلفة عن ركب الدول الأخرى، وتبقى تسير القهقرى ما دام حكامها ومسؤولوها قاصرين عن إدراك مقوّمات السيادة والقوة والتقدم.  
قال الركابي إن “النجاح بعد أي ثورة صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً”، وضرب “الثورة الفرنسية” مثالاً على عدم النجاح هذا، أو صعوبته. وإذا تجاوزنا فكرة “فشل الثورة الفرنسية”، وهي أنجح ثورة في التاريخ، فبودّنا أن نسأل: هل كان الإسلاميون قد فجروا ثورة في العراق، على غرار الثورة الفرنسية، أسقطت النظام وجاءت بهم إلى الحكم؟ أم أن الأميركيين وحلفاءهم الغربيين هم الذين أسقطوا النظام عبر القوة العسكرية؟ ومع سقوط النظام، سقطت الدولة لأنها كانت مرتبطة بالنظام السياسي، الأمر الذي مكَّن ميليشيات “الحركة الإسلامية” المرتبطة بإيران، من ملء الفراغ، بعلم الأميركيين، أو غفلتهم، والاستيلاء على مقدرات البلد ومعسكرات الجيش ومؤسسات الدولة، بدءاً بمطار المثنى، الذي صار مقراً لحزب “الدعوة”، إلى القصور الرئاسية ومنازل المسؤولين ومقار حزب “البعث” وميليشياته، التي احتلتها باقي فصائل الحركة الإسلامية المباركة وتمركزت فيها.
يضع الركابي اللوم على حزب البعث كونه “قام بثورة مضادة” (ضد ثورتهم الفرنسية!)، لكنه في الوقت نفسه يقول إن “البعث وأجهزته لم تُمَس بسقوط النظام مع (وجود) دعم إقليمي هائل”! فإن كان البعث وأجهزته لم تُمس، فكيف تمكن الإسلاميون الشيعة من أن يحكموا ويحققوا “منجزاً تأريخياً” للشيعة “لم يتحقق منذ عهد الإمام علي”؟
ثم يلحِق الركابي هذه الأفكار الخلاقة بالقول إن “التغيير حصل على أيد أجنبية (كذا)، لها أجنداتها ومصالحها، ولها استفزازاتها للدول المحيطة (كذا)”! قد نفهم “الأجندات والمصالح” ولكن “الاستفزازات للدول المحيطة” تحتاج إلى توضيح، لأننا لم ندرس الفلسفة كي نفهم المضامين العميقة الكامنة خلف هذا التعبير البليغ! 
ويضيف الركابي أن الحركة الإسلامية دخلت العملية السياسية “لتجنُّب مأساة (كذا) عام 1924! حيث غاب الشيعة فتأسست الدولة بعيداً منهم، وكان نصيبهم منها جنوداً ونواباً عرفاء وخدماً وضحايا وشهداء ومشردين”. لكنه، مرة أخرى، لم يُفَصِّل لماذا غاب الشيعة عن تأسيس الدولة، التي يعتقد أنها تأسست عام 1924، وهو تأريخ جديد على العراقيين، فالمعروف أنها تأسست في 23 آب 1921! نعم لم يتوقف عند السبب، وكان عليه أن يتوقف طويلاً عنده، إن كان فعلاً جاداً، لأنه كان بداية للتراجع والنكوص الذي حل بكثيرين منهم!
ثم يقول، إن الحركة الإسلامية حققت مُنْجَزاً تأريخياً ألا وهو أنها “ترجمت الغالبية الشعبية إلى غالبية حاكمة”، وهذا في رأيه “انقلاب تاريخي منذ استشهاد الإمام علي”! بعد ذلك يتهم العراقيين السُنّة “ومن ورائهم كل العالم السُنّي” باستخدام كل الوسائل لمواجهة هذا التغيير “ابتداءً من السيارات المفخخة إلى الحرب النفسية التي تشنها فضائيات مقتدرة”، متهماً قناة “الشرقية” (وأخواتها) بتأجيج هذه الحرب! متجاهلاً أن السيارات المفخخة لم تميِّز، ولا يمكن أن تميّز، بين السنّة والشيعة أو العرب والكرد أو المسلمين والمسيحيين.
ويتفاخر الركابي بأن الشيعة “انتقلوا من نواب عرفاء إلى قادة فرق وقادة عمليات، ومن خدم وبوابين إلى وزراء ونواب، ومن غرباء، ليس من حقهم التملك والعمل حتى كعمال يوميين، إلى سادة ووزراء ونواب”! من الواضح أن الركابي يشيد، بل يفتخر، بانتقال نائب العريف إلى قائد فرقة وقائد عمليات عسكرية، ويعتبره إنجازاً تأريخياً! لكنه يبرر فشل نائب العريف هذا في قيادة الفرقة، بوقوف “العالم السُنّي” برمّته ضده! ولم يقدم الركابي سبباً لوقوف العالم السنّي برمّته ضد العراق، إن كان حقاً يؤمن بهذه الخرافة! لكننا نعلم أن إيران تثقف أتباعها بهذا الاتجاه، كي تجعلهم دائماً خائفين، لا وجهة لهم غيرها.
ومن حق القارئ أن يسأل: كيف أصبح الشيعة نواباً عرفاء وخدماً كما يقول الركابي، إن لم يكن لهم حق العمل أساساً؟ ثم كيف شغلوا المناصب العليا، من رؤساء الوزراء إلى الوزراء والسفراء والوكلاء والمديرين العامين؟ وكيف أصبحوا أطباء ومهندسين وخبراء وعلماء وقضاة وأساتذة جامعات؟ وكيف تمكّن علي الوردي وفرحان باقر وحاتم الكعبي ونصير شمة وعلي جواد الطاهر وطه باقر ومحمد مهدي الجواهري ومهدي المخزومي وأحمد الصافي النجفي ومصطفى جمال الدين وآلاف غيرهم من التميّز والإبداع؟ 
وكيف صار معظم القضاة وضباط الجيش والشرطة من الشيعة خلال العقود المنصرمة؟ ومن أين جاء المعلمون والمدرسون والأطباء والمهندسون والأساتذة في العراق؟ ألم يكونوا من أبناء البلد ومعظمهم من الشيعة؟ هل يعلم الركابي أن ستة من كبار ملاكي الأراضي السبعة في العراق هم شيعة؟ (حنا بطاطو-ج1-ص70)، بينما امتلك مئات الإقطاعيين الشيعة آلاف الدونمات في الوسط والجنوب. أما في بغداد فإن كبار التجار والملاك هم من الشيعة، وهذا معروف ومدوَّن في كتب عديدة، ولا يتّسع المجال لذكر الأسماء. 
يعترف الركابي، مشكوراً، بأن الشيعة بقوا فقراء (بعدما أصبحوا أغلبية حاكمة)، ويعلل ذلك بالقول “ليس هناك دولة في العالم ليس فيها فقراء، بما في ذلك أميركا والسعودية”! ويضيف أن الفقر لا يزال موجوداً بين السود في جنوب أفريقيا بعد ثلاثين عاماً من التغيير، ومع ذلك “فنحن نشيد بتجربة مانديلا”! ولكن، ما الهدف من وجودهم في الحكم، إن لم يؤدِ إلى تحسن ظروفهم المعاشية؟
لا بد من الإشارة هنا إلى أن نلسون مانديلا لم يجتث البيض من الدولة، بل أبقاهم في مواقعهم الوظيفية والإدارية والتجارية، وكان نائب الرئيس، هو رئيس الوزراء في النظام العنصري البائد، فردريك ديكليرك، بالإضافة إلى وجود العديد من الوزراء والمديرين “الأفريكانر” (البيض) في حكومته. 
سألت أحد رجال الأعمال “الأفريكانر” بعد عشر سنين من التغيير عن وضع المواطنين البيض في جنوب أفريقيا، وهل ساءت أوضاعهم أم لا؟ فقال: “أوضاعنا الآن أفضل بكثير من السابق، وأموالنا أكثر وحريتنا أوسع”. سألته كيف حصل ذلك؟ فقال: “جنوب أفريقيا كانت دولة منبوذة ومحاصرة وتعاني الكساد، والآن العالم كله يتعامل معها ومنفتح عليها بسبب تغير النظام وإلغاء النظام العنصري، ولأننا نمتلك الخبرة والبنى الأساسية للأعمال والتجارة، فقد كان دورنا مركزياً في بناء البلد وتطويره، وقد استفدنا وأفدنا الغالبية السوداء”.  
 وبعد سرد الركابي كل هذه “الإنجازات” العظيمة للحركة الإسلامية، يعترف بأن هناك “سلبيات وأخطاءً وخطايا”، لكنه لم يفصل فيها باعتبارها جزئيات طفيفة خفيفة، فاكتفى بالقول: “أترك تفاصيلها لكم”! ويعود في النهاية إلى المُنْجَز التأريخي الذي قال إنه “يجب أن يُسجَّل باسم الدعوة والمجلس الأعلى ومن خلفهم السيستاني وإيران”!
 يجب أن نسجل له اعترافه بوقوف إيران وراء “الدعوة” و”المجلس الأعلى”، والمآسي التي أحدثها حكمهما، فشكراً له على هذا الاعتراف الذي كشف الغمّة عن هذه الأمة. شخصياً كنت أتصور أن إيران تقف فقط خلف “بدر” و”الكتائب” و”العصائب” والمصائب! ولكن، يجب تبرئة المرجع السيستاني من أي علاقة، سواءً بـ”المنجزات” أم الأخطاء والخطايا، التي ارتكبها الركابي ورفاقه، على الرغم من استغلال “الحركة الإسلامية” اسمه وصوره في الترويج لقادتها، إلى جانب استغلال باقي الرموز الدينية، في مخالفة صريحة لقانون الانتخابات. 
لا شك بأن الركابي يستهين بعقول قرّائه ويراهن على عجزهم عن تحليل كلامه الهزيل والمتناقض، فهو من جهة يستفز عصبياتهم الطائفية بالقول إن الشيعة أصبحوا حكاماً الآن، بعدما كانوا نواباً عرفاء، ويستفز عصبياتهم الحزبية بتسجيل هذا المُنْجَز المتخيل باسم حزب “الدعوة” و”المجلس الأعلى”، مستثنياً شركاءهم الآخرين، لكنه يعلم جيداً أنه لا يوجد أي مُنْجَز، بل أخطاء وخطايا (باعترافه)، لذلك يتعمد إقحام المرجع السيستاني وإيران في الموضوع، كي يستنجِد بهما لحماية المُنْجِز، لأنه غير قادر على حماية نفسه من جماهير الشيعة التي تشعر بالخديعة والخذلان! 
لم تكن هذه المرة الأولى التي تحاول فيها أصوات الجماعات الدينية التمترس بالطائفة، والتشدق بالتصدي لحماية حقوقها، فقد دأبت على ذلك طوال تأريخها، واختلقت مظلومية متخيلة للشيعة في ظل الأنظمة العراقية السابقة، وقد كررها الركابي في كلامه بأنه للمرة الأولى يحصل الشيعة على حقوقهم منذ عهد الإمام علي! وهذه مغالطة تأريخية مقصودة تهدف إلى تضليل بسطاء الشيعة وإشعارهم بالضعف كي يكونوا وقوداً للمشروع القومي الإيراني التوسعي المتسربل بالدين والطائفة.وللحديث بقية.

التعليقات معطلة.