حرب السعودية على لبنان

1

 

حنين غدار

في 6 تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان أنه سيتمّ التعامل مع الحكومة اللبنانية، التي يهيمن عليها الحزب السياسي وميليشياته المدعومة من إيران – «حزب الله» – كما لو أنها “أعلنت الحرب” على الرياض. وجاء تصريح السبهان بعد يوميْن فقط من استقالة رئيس الوزراء اللبناني (السنّي) سعد الحريري أثناء تواجده في الرياض، مفككاً ظاهرياً حكومته الائتلافية مع «حزب الله»، وذلك بناءً على اقتراح السعودية على ما يبدو. وتمثل هذه الخطوات – والعديد من التدابير التي أُعلن عنها مؤخراً – سياسة سعودية عدائية جديدة تجاه لبنان. وبالفعل، من المرجّح أن تكون “حرب” الرياض على النفوذ الإيراني في لبنان اقتصاديةً أكثر منها حركية. فالمقاربة الجديدة، التي تأتي بعد عقد تقريباً من المساعي السعودية الفاشلة لدعم “تيار المستقبل” الموجّه من السعودية والموالي للغرب برئاسة الحريري وحلفائه ضد «حزب الله»، لم تعد تميّز بين الحلفاء المحليين والأعداء. ويبدو أن الرياض المستاءة بسبب تنامي نفوذ «حزب الله» في بيروت قد قررت استهداف لبنان بأسره.

المحن الاقتصادية التي تعيشها لبنان

كان للحرب الأهلية في لبنان (التي اندلعت بين 1975 – 1990) وحملة إعادة الإعمار التي أعقبتها أثراً كبيراً ودائماً على اقتصاد البلاد. فمنذ عام 1990، أسهمت الديون المتراكمة، والاختلالات الهيكلية، والإيرادات غير الكافية، والفساد المستشري، والحروب الدورية في إنشاء اقتصاد يعتقد الكثير من المحللين أنه على شفير الانهيار. واليوم، تبلغ نسبة الديْن إلى “الناتج المحلي الإجمالي” في لبنان 148 في المائة، وهي من بين أعلى المعدلات في العالم، ويتوقّع “صندوق النقد الدولي” ازديادها إلى 160 في المائة بحلول عام 2021. إن تكلفة تمويل هذا الدين هائلة. والأسوأ من ذلك، أن النمو هزيل، حوالي 1 في المائة، كما أن الوضع السياسي في المنطقة – حتى قبل الأزمة الحالية مع السعودية – قد قوّض ثقة المستثمرين. وعليه، تباطأت تدفقات الودائع الأجنبية الداخلة، وانخفض التصنيف الائتماني الممنوح من وكالة “أس أند بي” S&P من B إلى B-. ويضاف إلى ذلك تكاليف استيعاب نحو 1.5 مليون لاجئ سوري – أي زيادة بنسبة 30 في المائة، على الأقل مؤقتاً، في عدد سكان لبنان. ووفقاً لـ “البنك الدولي”، يتكبّد لبنان نتيجة الحرب في سوريا واستضافة اللاجئين معاً تكاليف تقدّر قيمتها بنحو 7.5 مليار دولار سنوياً.

ويبدو أن الاستراتيجية السعودية الجديدة تستهدف اقتصاد لبنان المليء أساساً بالتحديات. وتقوم بذلك من خلال السعي إلى إضعاف 3 مجالات هشة على نحو أكبر، وهي: العمالة الوافدة، والقطاع المالي، والسياحة. وإذا نجحت المملكة في تحقيق هذا الهدف، فمن المؤكد تقريباً أن يكون لذلك أثر مدمّر على الحالة الوطنية، على النحو المبين أدناه:

العمالة الوافدة. يعيش نحو 15 مليون لبناني في الخارج، وبالتالي، ليس من المستغرب أن تكتسي حوالات المغتربين أهميةً متزايدة بالنسبة إلى لبنان. وبالفعل، تشكّل الحوالات حوالي 16 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي” اللبناني. ففي عام 2016، حوّل اللبنانيون المغتربون ما يقرب من 7.2 مليار دولار إلى بلدهم الأم. وتُعتبر دول «مجلس التعاون الخليجي» – أي السعودية والإمارات وقطر والبحرين والكويت وسلطنة عُمان – التي تضم ما يقدّر بـ 400 ألف عامل مصدراً أساسياً لحوالات اللبنانيين. وتقول مصادر لبنانية إن ما يقرب من ثلثي هذا الدخل بأكمله يأتي من دول «مجلس التعاون الخليجي»، والأغلبية الساحقة من السعودية.

ولكن في الأشهر الأخيرة، وفي إطار مبادرة «رؤية السعودية 2030»، التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وزيادة أعداد العمالة المحلية، زادت الرياض بشكل كبير رسوم تصاريح الإقامة على العمال الأجانب. وفي ظل ارتفاع الرسوم، فستنخفض الحوالات بالضرورة، فضلاً عن أعداد العمالة الوافدة. أما مبعث القلق المباشر فيكمن في خطر إقدام السعودية – والإمارات – على طرد المواطنين اللبنانيين، على الرغم من أن معظمهم من المسلمين السنّة والمسيحيين وليسوا من الشيعة.

وبالتالي، سيشكّل فقدان الحوالات المالية الخليجية ضربةً أخرى للاقتصاد اللبناني المتباطئ. ولن يؤدي ذلك إلى انخفاض “الناتج المحلي الإجمالي” للبلاد فحسب، بل من المحتمل أن يرفع نسبة البطالة الكامنة عند 7 في المائة. ولا شكّ في أن هؤلاء العمال الجدد العاطلين عن العمل سيشعرون بالغضب إزاء السعودية، ولكن قد يوجهون غضبهم أيضاً تجاه «حزب الله».

القطاع المالي. قد تؤثّر استقالة الحريري على عدد من البنود التي أقرتها حكومته في عام 2016، بما في ذلك الرسوم المنظمة للتنقيب بحراً عن النفط والغاز بالإضافةً إلى الميزانية الوطنية الجديدة، وهي الأولى في لبنان منذ اثني عشر عاماً. واذا ما أعقبت الاستقالة تدابير اقتصادية إضافية متشددة من جانب السعودية ودول الخليج الاخرى، فسيواجه لبنان المزيد من التحديات.

وعلى وجه الخصوص، تأتي نسبة 80 في المائة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في لبنان من دول الخليج، حيث تصبّ 40 في المائة منها في القطاع العقاري. وفي حين لم تزد الاستثمارات الخليجية في لبنان منذ عام 2012، إلّا أنّ المستثمرين لم يتخلوا عن استثماراتهم على الرغم من المشاكل السياسية المتكررة، وساهموا بالتالي في إلحاق الضرر بالاقتصاد. غير أنه في الآونة الأخيرة، تردّد أن أسعار العقارات في لبنان هبطت بنسبة تراوحت بين 10 و20 في المائة. ومن المؤكد أن أي عمليات بيع كثيفة يجريها الخليج ستسفر عن تداعيات وخيمة على السوق العقاري اللبناني الذي كان قوياً في السابق.

كما أن التجارة اللبنانية تستفيد من دول الخليج، التي تشكّل 20 في المائة من إجمالي صادرات البلاد. وإذا قررت دول «مجلس التعاون الخليجي» إيجاد موردين آخرين، فبإمكانها إيجادهم، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الميزان التجاري في لبنان، الذي كان يعاني عجزاً بنسبة 30 في المائة أو بقيمة 15.65 مليار دولار في عام 2016.

لكن تجدر الإشارة بشكل خاص إلى تأثير السعودية المحتمل على القطاع المصرفي الأساسي في لبنان. فودائع المملكة لدى “مصرف لبنان”، وهو الاسم الذي يُعرف به المصرف المركزي، تقدّر بنحو 860 مليون دولار، وهو المبلغ الذي أودعته السعودية أساساً من أجل المساعدة على استقرار الليرة اللبنانية حين انتُخب رفيق الحريري، والد سعد الحريري، للمرة الأولى رئيساً للحكومة في عام 1992. ومن أجل دعم الحريري وخططه الاقتصادية للبنان، وافقت السعودية على إبقاء هذه الودائع في “مصرف لبنان”. لكن الآن، وبعد أن عبّرت المملكة عمّا تعتبره “إعلان حرب” من قبل لبنان، واستقالة سعد الحريري من منصبه، برزت مخاوف من إمكانية سحب الرياض هذه الودائع. وفي حين تشكّل الودائع عموماً 2 في المائة فقط من الاحتياطي الأجنبي في لبنان، إلّا أنّ سحبها قد يزعزع الثقة في “مصرف لبنان”، إن لم يساهم في زعزعة استقرار الليرة.

وفي شباط/فبراير 2016، انتشرت شائعات على نطاق واسع بأن السعوديين قد يسحبون ودائعهم بعد أن رفضت الحكومة اللبنانية إدانة إيران لاعتدائها على السفارة السعودية في طهران وقنصلية المملكة في مشهد. إلّا أنّ ذلك لم يحصل أبداً، لكن الرياض ألغت التزامها بتقديم مِنًح للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بقيمة 4 مليارات دولار.

السياحة. قبل المقاطعة السياحية الأولى التي فرضتها دول الخليج على لبنان في عام 2012 رداً على الأنشطة العسكرية لـ «حزب الله» في سوريا دعماً لنظام الأسد، شكّل السياح السعوديون ربع إجمالي سيّاح لبنان. وعلى الرغم من ان السياح الخليجيين بدأوا فى العودة تدريجياً على مرّ السنين، إلّا أنهم لم يتجاوزوا منذ ذلك الحين 8 في المائة من العدد الإجمالي. وأدّى الانخفاض في السياح الخليجيين الأثرياء بشكل رئيسي إلى إلحاق الضرر بقطاع الفنادق، مما أدى إلى انخفاض نسبة الإشغال إلى 40 في المائة مقارنةً بمستويات عام 2010، وانخفاض سعر الغرفة ليوم واحد إلى 56.6 في المائة عن المستويات السابقة. وبدوره، ساهم هذا التراجع في ارتفاع معدلات البطالة في قطاع الضيافة. وخلال فصل الصيف، وهو موسم الذروة التقليدي للسياح الخليجيين في لبنان، أدّى أيضاً غياب هؤلاء الزائرين إلى إلحاق الضرر بأعمال المطاعم والمنتجعات وغيرها من مواقع الترفيه. وقبل أيام قليلة فقط، في 9 تشرين الثاني/نوفمبر، نصحت السعودية رعاياها بعدم السفر إلى لبنان. وسرعان ما حذت الكويت والبحرين حذوها.

وعلى الرغم من تراجع عدد السياح من دول «مجلس التعاون الخليجي»، تمكّن لبنان، إلى حد ما، من ملء الفراغ من خلال استقطاب السياح من دول عربية أخرى، مثل الأردن والعراق، بالإضافة إلى السياح من الغرب الذين يعتبرون لبنان إحدى الدول القليلة في الشرق الأوسط الخالية نسبياً من أعمال العنف خلال فترة ما بعد “الربيع العربي”. وبالفعل، أسفر الهدوء النسبي في لبنان والاتفاق السياسي الذي دام طوال عام بين الحريري و«حزب الله» وحلفائهما المسيحيين عن زيادة في القطاع السياحي بنسبة 25 في المائة في عام 2017 مقارنةً بالعام الذي سبق. غير أن الموقف الهجومي الذي تتبناه السعودية حالياً يهدّد بتقويض بعض المكاسب العامة البسيطة في مجال السياحة.

الاستنتاج

من خلال استهداف العمالة الوافدة والقطاع المالي والسياحة، ستسفر حملة السعودية الجديدة ضد لبنان من دون شكّ عن تداعيات على الاقتصاد اللبناني. ومن المؤكد أنّ هذه المقاربة ستلحق الضرر ليس بوكلاء إيران مثل «حزب الله» وناخبيه وحلفائه المسيحيين في “التيار الوطني الحر” فحسب، بل ستؤثر أيضاً على السنة والمسيحيين الموالين للغرب في لبنان، الذين كانوا حتى الآن على علاقة جيدة مع الرياض.

وفي هذا السياق، تسير الاستراتيجية السعودية على خطى سياسة إسرائيل القائمة منذ زمن طويل إزاء «حزب الله» في لبنان. وترسّخ إسرائيل ما يسمى بـ “مبدأ الضاحية” الذي يقول إنه نظراً إلى هيمنة «حزب الله» على الدولة، فإن أي حرب مستقبلية مع الجماعة لن تستهدف الميليشيا فحسب بل ستطال مجمل البنية التحتية للدولة اللبنانية. وكانت هذه السياسة القائمة منذ عام 2006 قد نجحت في ترسيخ شكل من أشكال الردع على الحدود الشمالية لإسرائيل. وفي الأشهر الأخيرة، أطلقت السعودية نسختها الخاصة لهذه الاستراتيجية، على الأقل اقتصادياً، في محاولة لفرض تغييرات على سلوك الدوحة. ومن غير الواضح ما إذا كانت النسخة السعودية الخاصة بـ “مبدأ الضاحية” ستتكلّل بهذا القدر من النجاح في ردع العدوان الإيراني في لبنان.

التعليقات معطلة.