هل تسعف الصين والهند بوتين في أزمة أوكرانيا؟
الثلاثاء – 24 صفر 1444 هـ – 20 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [16002]
لم تطابق حسابات الحقل عند الرئيس بوتين حسابات البيدر، فوجد نفسه، بعد دخوله الأراضي الأوكرانية في معضلة عسكرية وسياسية ودبلوماسية واقتصادية؛ ولعل المعضلة الكبرى أنه غير قادر على التراجع، ولا على التقدم؛ وبالتالي فإن الخشية من خيار من جانبه، دفعت مناصريه من الدول الكبرى إلى تنبيهه بأن المخاطر كبيرة على العالم، وعليه أن ينتبه، وإلا فإنه قد يجد نفسه خاسراً. في اجتماع أوزبكستان الأخير نصح رئيس وزراء الهند مودي، بوتين، بأن الوقت ليس مناسباً الآن للحرب، لأن التحديات كبيرة جداً، ومنها أزمتا الغذاء والطاقة اللتان تضربان بقسوة البلدان النامية، وأشار عليه بأهمية البحث عن وسيلة للتقدم لتحقيق السلام. هذه النصيحة سبقها تحفظ صيني، عبر عنه الرئيس بوتين نفسه بأنه يتفهم ومستعد لمناقشة القلق الصيني، مظهراً تقديره للصين كشريك داعم وليس كحليف؛ هذه لفتة مهمة، تدل على أن الصين تراعي مصالحها، ولن تجازف من أجل بوتين في معركة خاسرة؛ بعبارة أخرى الصين ترى أن بوتين شريك، إن كسب فهي مستفيدة لأنها ستكون أقوى في مواجهة الغرب، وإن خسر فإنها ستكون أقدر على التحكم بروسيا ومواردها في المواجهة مع الغرب.
يدرك بوتين بلا شك حراجة الوضع، لكنه أسير استراتيجية أسهمت في جعله زعيماً، والتخلي عنها سيحوله إلى رئيس عادي؛ المفتاح الأساسي في هذه الاستراتيجية، كما يقول كيسنجر، الإيمان بأن روسيا إمبراطورية، والشعور بغياب الأمان لعدم وجود موانع طبيعية تعرقل أي اجتياح خارجي لروسيا، وهو ما جعلها تستولد نظرية الحزام الأمني، أو ما يسمى «الجوار القريب». هذا الحزام الأمني يعني وجود دول تابعة لها، وتعمل معها، وتكون درعاً يقيها أي اجتياح غربي لأراضيها، لا سيما أنها تعرضت لاجتياحات في التاريخ، منها فرنسية وألمانية. هذا الحزام الأمني انهار بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وزحف «الناتو» إلى حدودها، ولذلك كان رد بوتين بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر خطأ في القرن العشرين. ومقابل الخوف الروسي يوجد خوف أوروبي من التمدد الإمبراطوري الروسي الذي يستمد نسغه من الشعور القومي السلافي الأسطوري؛ ووفق معادلة الخوف كان حتماً أن يحتل بوتين جورجيا والقرم، ثم اجتياح أوكرانيا بدافع الأمن والشعور القومي، وكان محتماً ان تخاف قيادات أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، ومنها بولندا ودول البلطيق من الزحف الروسي، بعدما شاهدوا الدبابات الروسية تزحف لاحتلال العاصمة كييف وتغيير حكومتها، وأصبحوا على قناعة بأن انتصاره في الحرب هو تهديد خطير لأمنهم، فكان الدعم غير المشروط لأوكرانيا، ومسارعة دول مثل فنلندا والسويد للانضمام لحلف «الناتو». وهكذا تحول مبدأ حماية الأمن الروسي إلى تهديد لروسيا، وتحول خوف أوروبا إلى مضاعفة العداء لروسيا، وزيادة التسلح، والانضمام إلى الأحلاف العسكرية لرفع التكلفة في حال أي اعتداء روسي.
إن استخدام بوتين سلاح الطاقة ضد أوروبا أشعرها بأنها مهددة أمنياً لربطها اقتصادها بالنفط والغاز الروسيين، وأن الحل هو بفك هذا الارتباط بسرعة؛ هكذا قلصت أوروبا صادراتها، ووضعت إجراءات تقشف، وعقوبات جماعية لروسيا، من شأنها أن تقلص الاقتصاد الروسي، وتضرب قطاعي الغاز والنفط على المدى الطويل؛ هذا دفع أوروبا مجبرة نحو الولايات المتحدة التي أسهمت أكثر في تعميق أزمة بوتين لمطامع استراتيجية تتجاوز روسيا وتستهدف بالذات الصين. فأميركا تعد خسارة بوتين رسالة تحذيرية للصين الطامعة في تايوان، وتجعل أوروبا تقف أكثر وراءها، وكذلك دولاً تقع على المحيطين الهادي والهندي مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وتايوان؛ هذا الكسب الأميركي سيضعف موقف الصين التي هي منافس حقيقي لأميركا لا بد من إعاقته، لأن الفشل في ذلك خسارة استراتيجية واقتصادية لتفردها في العالم. ووفق هذا التصور، يمكن تفهم القلق الصيني من بوتين، وكذلك التحذير الهندي، لأن الهزيمة العسكرية الأخيرة للروس في أوكرانيا دليل على أن أوروبا وقفت متحدة، وأن أميركا قادرة على تغيير الموازين العسكرية، وأن المعسكر الليبرالي الذي تراه الصين وروسيا هشاً لا يزال قادراً على الصمود، لا بل على تهديدهما أمنياً واقتصادياً.
أصبحت الصورة واضحة للرئيس بوتين بأنه غير قادر على إسقاط حكومة كييف، ولا على الاحتفاظ بالأراضي التي اجتاحها، ولا على استخدام سلاح الطاقة بعدما تداعت أوروبا لمواجهة ذلك بوحدة قل نظيرها، ولإدراكه أيضاً أنه باستخدامه هذا السلاح جر الضرر على الاقتصاد الروسي وعلى السمعة العسكرية، ما يعني مراجعة كثير من الدول لمواقفها، وبدء حسابات جديدة لتغيير البوصلة، إما نحو الولايات المتحدة مجدداً أو الصين أو الاحتفاظ بموازنة بين هذين القطبين. وهذا الواقع يقلل فرص الخيارات المتاحة لبوتين، فليس أمامه سوى أن يُصعّد المواجهة عسكرياً، كما قال إنه لم يستخدم بعد قدرات جيشه كاملاً، وهذا ما قد يجعله في مواجهة أوروبا وأميركا واليابان وكوريا الجنوبية، وهي دول قادرة على مد الأوكرانيين بالمال والسلاح، أو ربما يضطر في خضم هذا السياق، وبدافع من اليمين المتشدد في الداخل الروسي، إلى استخدام سلاح مدمر (خيار شمشون)، مما يحمل الولايات المتحدة، التي قاومت حتى الآن طلبات أوكرانيا للحصول على أسلحة فتاكة، إلى التدخل عسكرياً أو استخدام أسلحة تؤدي إلى سقوطه أو إزاحته داخلياً.
خيار بوتين بالتصعيد هو الذي يشرح عملياً الدافع وراء التصريح الصيني والهندي بالخوف والقلق، وربما يضطران، حفظاً لمصالحهما، إلى عرض مبادرة لوقف القتال، والبدء بالتفاوض للوصول إلى تسوية تحفظ الحد الأدنى لبوتين، وتنقذ أوكرانيا من حرب قد لا تنتهي.