عودة “تشرين” إلى الواجهة في العراق
عبد اللطيف السعدون
28 سبتمبر 2022
مرّت سنة عجفاء على الانتخابات البرلمانية المبكّرة التي خدع العراقيون بها أملاً في إصلاح خراب دهر السنوات العشرين الطويل، لكن شلة اللصوص التي حكمت البلاد منذ الاحتلال سرقت حتى بقية الأمل في أن يحدُث تغييرٌ ما، وأشاعت من جديد مناخ اليأس لدى من ظنّ أن لعبة “الصناديق” قد تدفع بتلك الشلة إلى التراجع والشعور بالذنب جرّاء الخطايا والجرائم التي اقترفتها، واكتشف من خدع أن “الانتخابات المبكرة” لم تكن سوى كذبة كبيرة أنتجت سنة أخرى من العذابات والحرمان والخراب المقيم.
أوصل ذلك كله “العملية السياسية” التي شرعنها الأميركيون بعد الاحتلال إلى طريق مسدود، لكن السياسيين من رجال الأحزاب وزعماء المليشيات ما زالوا يبحثون عن مخارج تتيح لهم إعادة إنتاجها، وهم يراهنون على الوهم، لعله يكون وسيلة إنقاذ لهم، غير مبالين بصوت الشعب “الذي قرّر أن يواجههم مرة أخرى في عقر دارهم، في المنطقة الخضراء”، بحسب بيان نشره على مواقع التواصل ناشطون اتّخذوا لأنفسهم اسم “اللجنة المركزية للحراك الشعبي”، حدّدوا الأول من أكتوبر/ تشرين الأول موعداً لانطلاقتهم السلمية الجديدة، ودعوا إلى تعبئة كل فئات الشعب في هذه الخطوة التي قالوا إنها تسعى إلى تغيير شامل، يعيد لهم حقوقهم بوصفهم مواطنين في وطن حرّ ومستقل.
بدأت إيران تتحسّب لما يمكن أن تشهده الأيام المقبلة من تداعيات، بما قد ينعكس على نفوذها في العراق
هكذا يعرف “التشرينيون” أقدارهم، ويجرّبون حظوظهم مرة أخرى موجّهين نداءاتهم لكل الناس أن “اخرجوا من بيوتكم، اتركوا أعمالكم فقد دقّت ساعة الخلاص”، وقد أدركوا أن من غير الثورة لا يمكن لهم أن يستعيدوا وطنهم ويستردّوا ثرواتهم وينالوا حرّيتهم واستقلالهم، وقد خسروا سنواتٍ عديدة، وجرّبوا طرقاً شتّى للتغيير، جديدها أخيراً كذبة “الانتخابات المبكّرة”، وواكبوا مشاريع قيل لهم إنها “مشاريع وطنية” أتقن إعدادها أناس ركبوا الموجة، واندسّوا في صفوف المعارضين، ثم عقدوا اتفاقات وتفاهمات مع من هم في السلطة، وقبضوا الثمن، ودخلوا في اللعبة عن قصد وتصميم، وتحولوا إلى زعماء وقادة بفضل قوىً بعضها خفي وبعضها معلن، وأضاعوا على أبناء جلدتهم، بسلوكهم المشين هذا، فرصاً، وأهدروا إمكاناتٍ كان يمكن أن تستثمر في بناء الدولة وتحصين المجتمع.
وفي ضوء ما تشهده جبهة الحكم هذه الأيام من تحضيرات واستعدادات لمواجهة ما قد يحدُث، فإن مهمة الحراكيين/ الثوار سوف تكون هذه المرّة أكثر صعوبة مما سبق، وأقرب ما تكون إلى معركة مصير لا يتوقع أحد أن تحقق أهدافها بسهولة، وما يريده العراقيون منها أن تشكّل خطوة عملية عريضة نحو منع اغتيال الأمل بإمكانية التغيير، وهو ما تسعى إليه قوى الأمر الواقع، وتجذير الثقة في قدرة الشعب على الفعل.
من الناحية الأخرى، أخذت قوى السلطة تشعر بالرعب، وهي تدرك حجم المخاطر التي تلاحقها، ليس بسبب تصاعد المد “الحراكي” ضدها فحسب، وإنما بسبب الانقسامات الحاصلة في صفوفها أيضاً، وذلك إثر انشقاق “التيار الصدري” عنها وتضارب الآراء بين أطراف “الإطار التنسيقي” بخصوص هذه المسألة، إذ يرى زعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، ومعه زعيم مليشيا عصائب الحق، قيس الخزعلي، ضرورة الإسراع بتشكيل حكومة جديدة، وعدم أخذ موقف مقتدى الصدر المعارض بنظر الاعتبار، في حين يرى هادي العامري الممثل لتحالف الفتح أن ذلك يفضي الى الاصطدام بالصدر الذي قد يعمد إلى إثارة الشارع وإحداث المشكلات أمام الحكومة.
إن فصلاً جديداً في تاريخ العراق على الأبواب، وقد يتأخّر قليلاً أو كثيراً، لكنه في النهاية قادم حتماً
ونتيجة لكل هذه التداعيات، اتجه “الإطار التنسيقي” إلى مد يده إلى من هم خارجه لإقامة تحالف جديد باسم “قوى الدولة”، يضم أطراف الإطار الحاليين إلى جانب الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة اللذيْن أدارا ظهريهما للصدر، حيث كانا متحالفين معه، ما يعني محاولة لعزل الصدر الذي رفض أية تسوية مع “الإطار”. .. وكخطوة استباقية، أقدمت مليشيات “الحشد الشعبي” على تنظيم حملة اعتقالات لمجموعة من الناشطين، بتهمة العمل في صفوف حزب البعث المحظور.
إيران نفسها، وهي الراعية للعملية السياسية إلى جانب الولايات المتحدة، بدأت تتحسّب لما قد يمكن أن تشهده الأيام المقبلة من تداعيات، بما قد ينعكس على نفوذها في العراق، باعتباره الحلقة الأخطر والأهم في مشروعها في المنطقة، وقد ظهرت ملامح هذا التحسّب في توجيه المليشيات المرتبطة بها، لتوخّي أقصى درجات الحذر والترقب، لما قد تؤول إليه الأوضاع، هذا إضافة الى إبقاء قوة من الحرس الثوري في بغداد، كانت قد جاءت إلى العراق تحت غطاء الإشراف على تأمين الخدمات للزوار الإيرانيين في أربعينية الحسين.
وبالمختصر المفيد، إن فصلاً جديداً في تاريخ العراق على الأبواب، وقد يتأخّر قليلاً أو كثيراً، لكنه في النهاية قادم حتماً، إنه منطق التاريخ الذي لا يعرف المساومة ولا التزييف.