العراق بين لعنة التاريخ وقسوة الجغرافيا
إياد الدليمي
11 أكتوبر 2022
قُدّر للعراق أن يكون مجاورا لدولتين إقليميتين غير عربيتين، وهما وريثتا إمبراطوريتين كبيرتين، جيرة جعلت من الموقع الجغرافي للعراق ساحة نزاعٍ وصراع، سواء بين الدولتين، الصفوية والعثمانية، أو بين إمبراطوريات أخرى، رأت في هذا البلد فرصتَها لتعزيز هيمنتها على العالم. وما بين هذا وذاك، ظل التاريخ متربّصا بأحداث العراق، وكأن التاريخ لم يُخلق سوى من أجل تعميق الصراع وزيادة الهوّة بين مجتمعات سكّانه المنتشرين على طول مجرى النهرين، معزّزين وجودهم بانتماء عقدي، يفترض أن يكون هوية فرعية بعد الهوية الوطنية، غير أن تحوّل البلاد إلى ساحة صراع بين الإمبراطوريات المتنافسة كثيرا ما دفع هذه الهوية العقدية لتكون الأولى إزاء تراجع الهوية الوطنية التي ما انفكّت تعاني من تباين موقعها كلما هبّت على العراق رياح الصراعات.
يكشف الكاتب الإنكليزي جيمس بار، في كتابه “خط في الرمال – بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكل الشرق الأوسط” (ترجمة سُلافة الماغوط، دار الحكمة، لندن، 2015)، أن الاتفاق الإنكليزي الفرنسي، والذي عُرف لاحقا باسم اتفاق سايكس – بيكو، كان يقضي بأن تتوقف القوات البريطانية عند كركوك، وأن لا تصل بقواتها صوب الموصل التي كانت من حصّة فرنسا. وهو أمر لم يقبله البريطانيون، بعدما تيقنوا أن الخبراء الألمان الذين كانوا يعملون بمعية الدولة العثمانية أكدوا أن المنطقة غنية بالنفط، مصدر الطاقة المكتشف حديثا، والذي سيغيّر من شكل الصراع وحتى من طبيعة الهيمنة على العالم، وهو الوحيد الذي سيتمكّن من مَدّ عمر الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
اقتنع جورج لويد، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، بما قدمه أدميرال في البحرية البريطانية، حين كتب عن أهمية الموصل، وهي الرسالة التي أرسلها إلى مكتب رئيس الوزراء البريطاني، وقرأها سكرتيره لويس هانكي، لتكون الموصل تحت قبضة القوات البريطانية، على الرغم من تقسيمة سايكس – بيكو التي كانت تمنح الموصل للفرنسيين.
طهران تؤمن بأن بغداد قوية تعني إضعافاً لها ولدورها، والعكس صحيح، وهو ما تعمل عليه إيران منذ ثورة الخميني
مثال من التاريخ القريب لعراقٍ تشكّل بعد ذلك بعامين تقريبا، عراقٍ أريد له ان يكون خزّانا للنفط، يمدّ العالم بما يحتاجه من الطاقة التي غيّرت وجه العالم، من دون أن يكون له الحقّ في التحكّم بهذه الطاقة، حتى في أفضل حالاته قوة، سياسية وعسكرية، فقد بقي العراق تحت مرأى (ومسمع) العالم الذي يعتاش على النفط والموارد القادمة من هنا وهناك.
كان العراق، في كتب التاريخ، منطلقا لجيش الفتح الإسلامي، وعلى أرضه تحطّمت واحدة من أعتى إمبراطوريات الشرق القديم، الإمبراطورية الساسانية الفارسية، إمبراطورية الأكاسرة التي كانت تحكُم جغرافيا عربية واسعة، تاريخ لا يبدو أن كثيرين من فرس إيران يقبلون نسيانه. صحيح أنهم دخلوا الإسلام، وساهموا مساهمة فاعلة في نشر الدين الإسلامي وكانوا جزءاً أساسياً من بناة حضارة العرب المسلمين، غير أن العرقية والقومية الفارسية التي بقيت تسيطر على أحفاد الأكاسرة، كان لها فعل كارثي، وخصوصا على العراق، فعلى الرغم من تبدّل الأنظمة السياسية الإيرانية بين ملكية إلى إسلامية جمهورية، إلا أن القومية تبقى حاكمةً ومهيمنةً على سلوكيات السلطة.
القصف الإيراني المستمر والمتواصل على مناطق في إقليم كردستان العراق أحد تلك الأوجه التي ما زالت تحكم العلاقة بين العراق وإيران، فطهران تؤمن بأن بغداد قوية تعني إضعافاً لها ولدورها، والعكس صحيح، وهو ما تعمل عليه إيران منذ ثورة الخميني 1979 وحتى قبل ذلك. تقلبت العلاقة بين البلدين طيلة المائة عام الماضية، وبقيت عُقد التاريخ تحكم كثيرا من تصرّفاتها أنظمة البلدين السياسية، صحيحٌ أن عراق ما بعد الدولة العثمانية سعى إلى أن يكون عراقا متمدّنا بعيدا عن صراعات الماضي التي كان غالبا ما يقع ضحيتها، إلا أن الحال لم يكن كذلك بالنسبة لإيران وأنظمتها المختلفة.
حالة السيولة الحدودية التي يعيشها العراق مقلقة، وهي تستدعي موقفا سيبقى غائبا طالما بغداد تعتبر نفسها حديقة خلفية لطهران، حتى وإن صرّح ساستها بغير ذلك، فطهران لا يبدو أنها تنفذ عمليات انتقائية ضد مواقع تابعة لقوى كردية إيرانية تستقرّ في شمال العراق فحسب، بل إنها تسعى إلى التوغل العسكري في تلك المناطق الجبلية، ما يضمن لها سيطرة عليها إزاء أي تغييرات قد تحصل على جغرافيا “سايكس – بيكو” مستقبلا.
تتوغّل القوات التركية داخل الأراضي العراقية من خلال اتفاقاتٍ مبرمةٍ مع الحكومة العراقية تتيح لها مطاردة قوات حزب العمال الكردستاني
لا تخفي تركيا امتعاضا تاريخيا آخر، يتمثل بما تعتقد أنه سلب مدينة الموصل منها، المدينة التي كانت تعوّل عليها الإمبراطورية العثمانية لتنتشلها من حالة التردّي التي كانت تعيشها بعد اكتشاف خبراء ألمان النفط فيها، قبل أن يباغتها جورج لويد باحتلال المدينة، منقلبا حتى على حلفائه الفرنسيين. وتتوغل القوات التركية داخل الأراضي العراقية من خلال اتفاقاتٍ مبرمةٍ مع الحكومة العراقية تتيح لها مطاردة قوات حزب العمال الكردستاني الذي تضعه تركيا على لائحة الإرهاب، ويتخذ من مناطق في شمال العراق منطلقا له لشنّ هجمات على تركيا.
ومرّة أخرى، تفتح حالة السيولة الحدودية للعراق وضعف دولته الشهية لاستعادة المدينة، الموصل، شهية لم يخفها كثيرون من الساسة الترك منذ تسعينيات القرن الماضي، يوم أن بدأ الوهن يدبّ في الجسد العراقي نتيجة الحصار والعقوبات الدولية.
ما بين مطرقة التاريخ وسندان الجغرافيا، يقف العراق وحيدا دونما قدرةٍ على الدفاع عن وجوده في ظل ضعف الدولة ومؤسّساتها وتراخيها، وحالة الارتهان للخارج التي تعيشها غالبية قواه وأحزابه السياسية، فهل سيقع الجسد العراقي المتعب ضحية لسكّين التاريخ والجغرافيا قريبا؟