العراق… “كأننا لا رحنا ولا جينا”
عبد اللطيف السعدون
“.. بعد تسعة عشر عاما من التجربة المرّة، لم يعد ثمّة ما يرجى من الوجوه نفسها التي حكمت وتحكّمت بنا طيلة تلك الفترة، وقد جرّبناها فأذاقتنا الوبال وسوء المآل، وبعد ما قيل لنا إن المجرّب لا يجرّب ثانية، عادوا إلينا في صفقة شرّيرة لم يستغرق إبرامها سوى بضع ساعات بعد عام من انتخاباتٍ برلمانية أردناها مبكّرة، كي تمكّننا من تصحيح أوضاعنا لكننا أدركنا، ولو بعد حين، أن المطالب لا تُؤخذ بالتمنّي، وها نحن نعيش اليوم المأساة نفسها، وكأننا، يا بدر، لا رحنا ولا جينا”.
هكذا بدأ السياسي العراقي المتقاعد حواره معي، وقد اعتدتُ الرجوع إليه أسأله رأيه حول ما يجري في العراق وما يحيط به، أضاف: “تسعة عشر عاما ذهبت في مهبّ الريح، كانت خساراتنا فيها كبيرة ومكلفة، مئات مليارات الدولارات ذهبت هدرا، وأكثر من مليون مواطن أخذوا إلى الموت عنوة أو غيلة، ومثلهم جرح أو عوّق، وملايين آخرون أكرهوا على الهجرة إلى بلاد الله أو نزحوا إلى حيث شاء لهم القدر. وبفعل قوى وحشية تحوّلت البلاد إلى غابة سلاح منفلت بأيدي مليشيات ومافيات لا أول لها ولا آخر، واستبيحت كرامات الناس وديست هاماتهم، وتحوّلت دولة العراق التي قضت على أقوى آفتين تهدّدان أمن المجتمع: الأمية والمخدّرات، بشهادة المجتمع الدولي، إلى دولة فاشلة لا تملك من أمرها شيئا، ولحق برافديها الجفاف، وبأرضها التصحّر، وكفّت عن أن تمنح عطاءها وبركتها، وسجلت المنظمات الدولية كل هذه التداعيات المرة التي يصرّ بعضهم على تجاهلها في تقارير موثقة ودقيقة.
العراق يحتل المرتبة السابعة والخمسين بعد المائة في ذيل قائمة الدول التي تنعم بالسلام والاستقرار
من هذه التقارير ما ثبته “مقياس السلام العالمي” هذا العام أن العراق يحتل المرتبة السابعة والخمسين بعد المائة في ذيل قائمة الدول التي تنعم بالسلام والاستقرار، والتي تعيش في ظل أنظمةٍ لا سلطة فيها لمليشيات جانحة ولا لمافيات شرّيرة، وتقرير مؤشّر الأمم المتحدة الإنمائي الذي يضع العراق في المرتبة الواحدة والعشرين بعد المائة في ذيل قائمة الدول التي تضع هدف التنمية والإعمار في أولى أولوياتها، كذلك صنّفت منظمة الشفافية الدولية العراق في مرتبة متدنية طوال السنوات التسع عشرة المنصرمة.
بعد هذا كله، ماذا ننتظر من حكومة تلدها عملية سياسية هجينة أعطتنا كل هذه “المآثر”؟ ماذا ننتظر من حكومةٍ جاءت بعد فترة مخاض دامت 12 شهرا استغرقتها مساومات ومفاوضات واختلافات واتفاقات ومحاصصة شملت اقتسام وزارات، وهيئات، ودرجات، ومواقع؟ ماذا ننتظر من حكومةٍ لا تجد ما تعدنا به سوى ما وعدتنا به سابقاتها ثم أخلفت؟
لا وعد يخص السلاح المنفلت، لا إشارة إلى قتلة ثوار تشرين، لا ذكر لحيتان الفساد الكبار
وعلى منوال من سبق، يعدنا رئيس الحكومة المكلف محمد شيّاع السوداني بمعالجة “نقص الخدمات والفقر والتضخم والبطالة”، و”توفير فرص العمل والسكن” و”غلق منافذ الفساد”، ويعدنا أيضا بأنه في حال لم يعجبنا الأمر فسيسعى، بعد أربع سنوات طبعا، وبعد أن يكون قد استوفى المقسوم، لـ”إجراء انتخابات محلية ونيابية في أجواء حرّة ونزيهة”، وعندها سوف تدور الدائرة من جديد وتبدأ فترة مخاض أخرى، وسيلد الجبل فأرا آخر”. ونكتشف أن لا وعد يخص السلاح المنفلت، لا إشارة إلى قتلة ثوار تشرين، لا ذكر لحيتان الفساد الكبار، لا حديث عمّن تسبب في تسليم الموصل وفي مجزرة سبايكر، لا تلميح إلى إعادة النازحين والمهجّرين، ولا شيء يخصّ تجاهل القضاء لفضائح النهب واستغلال السلطة ووقائع “التسريبات” الموثقة التي تزخر بها مواقع التواصل.. ولا.. ولا.
ويمعن من صنعوا لنا الحكومة الجديدة في استغفالنا والضحك على ذقوننا بتكرار القول إنهم سوف يعيدون لنا هيبة الدولة وسيادتها، ويخترعون وصفا جديدا لها، إذ يسمّونها “حكومة خدمة وطنية” من باب تسمية الأشياء بأضدادها، وأيضا لخداعنا في أن لا هيمنة لدولة “ولاية الفقيه” على قراراتنا، ولا سطوة لهذا الطرف الأجنبي أو ذاك على مسار سياساتنا”!
وإذ أسهب السياسي المتقاعد في الشرح والتوضيح، ونفث ما في صدره من شجون، صمت لحظات قبل أن يقول عبارته الأخيرة، والتي أرادها أن تكون الحكم الفصل في ما يراه بخصوص ما يجري في العراق وما يحيط به: “.. يريدوننا أن نصدّق ما يعدوننا به، وكأن السنوات التي مرّت لم تكن كافية لإقناعنا بكذبهم وسوء طويتهم. وفي هذه الحال، ليس أمامنا سوى الصبر على المواجع لزمن أطول، وإلى أن تحدُث معجزةٌ ما”.