1

عن «البديل» الذي لم يفارق ذهن الشيوعيين الصينيين

حسام عيتاني

حسام عيتاني

الغائب الأكبر عن المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني هو صفة الشيوعية. فالحزب منذ أن أزاح عن كاهله أعباء مهماته الأممية وأعطى الأولوية لبناء الاقتصاد الصيني، لم يعد معنياً كثيراً بالصراعات الآيديولوجية التي وسمته في ستينات القرن الماضي.
والحال أن الحزب الشيوعي الصيني وباستثناء تمسكه ببعض الشعارات كالمنجل والمطرقة على علمه، واللون الأحمر والنجوم الخمس على العلم الوطني (النجمة الكبيرة ترمز إلى الحزب الذي يقود فئات المجتمع المشار إليها بالنجوم الأربع الصغيرة)، وترنيم النشيد الأممي أثناء افتتاح واختتام المؤتمرات الحزبية الحاشدة، لم يعد ثمة ما يربطه بتقاليد الأحزاب الشيوعية التي أفل نجمها.
رغم ذلك، يبقى الحزب الشيوعي هو القوة المسيرة للدولة والمجتمع الصيني، بحكم الأمر الواقع والقانون معاً. ولم تُضعف المسافة التي وضعها بينه وبين الماركسية الكلاسيكية منذ أن قرر دنغ كسياو بينغ أن «المهم هو أن يصطاد الهر الفئران» بدلاً من إضاعة الوقت في التساؤل ما إذا كان الهر (أي الحزب بلغة الرموز والتوريات الرائجة في الصين) اشتراكياً أو رأسمالياً. نزع دنغ رداء الآيديولوجيا الماوية التي لطالما صنفت نفسها على أنها الصيغة السليمة والمناسبة ليس للصين فحسب، بل لكل دول العالم الثالث، وتبنى مقاربة عملية اتهمها باقي الشيوعيين بالانتهازية والتحريفية، بل بالخروج كلياً من عالم الفكر الماركسي – اللينيني وحتى الماوي.
لكن الشيوعيين الصينيين تميزوا منذ وقت مبكر بالوقوف موقفاً ناقداً من الماركسية التقليدية التي كان رفاقهم السوفيات يحملون رايتها في عشرينات القرن الماضي، عندما برز نجم الحزب الشيوعي الصيني وقائده الشاب ماو تسي تونغ. أرغم الصراع الدموي مع حزب الكومنتانغ والعلاقة المعقدة معه التي تراوحت بين التعاون السياسي والاقتتال الدموي، ثم التحالف ضد الاحتلال الياباني قبل أن يعود الحزبان إلى خوض حرب أهلية دموية، أرغم هذا الصراع الذي انتهى بانتصار ماو، الشيوعيين الصينيين على التركيز على السمات المميزة للمجتمع الصيني مقارنة بمجتمعات أوروبا الغربية التي توجهت الماركسية الكلاسيكية إليها.
تحول الاختلاف إلى انشقاق عن الحركة الشيوعية العالمية، وطرح ماو أفكاره عن الثورة الفلاحية التي يحاصر فيها أهل الأرياف الفقيرة المدن التي تشكل معاقل البرجوازية في خروج واضح عن أولوية المدن كمراكز عمالية بحسب التشخيص الماركسي. ومع ذهاب الماويين إلى تبني العنف الثوري تبنياً كلياً وذيوع صيت شعارهم «الحق ينبع من فوهة البندقية» كانت الماوية تهز عرش الأحزاب الشيوعية في العالم، وتساهم في تأسيس «اليسار الجديد» الذي تعددت مظاهره ووصل بعضها إلى العالم العربي، وتأثرت به فصائل المقاومة الفلسطينية وبعض الأحزاب في المشرق العربي كما في المغرب.
تطورت هذه الفكرة واتخذت بُعداً دولياً مع اعتبار ماو أن الحرب النووية ممكنة كأداة في الصراع ضد الإمبريالية، حيث «تغلب ريح الشرق ريح الغرب». وبدا أن الثورة الطالبية في الغرب والتنظيمات الثورية المسلحة التي وصل الأمر ببعضها إلى ارتكاب مجازر لا توصف استناداً إلى تفسيرها لأفكار ماو على غرار الخمير الحمر في كمبوتشيا (كمبوديا)، يستعين كلها بنموذج عن «البديل» الذي تقدمت الصين الماوية به. الثورة الثقافية بين العامين 1966 و1976 والتي أطلقها زعيم الحزب كأداة في حربه على خصومه «البيروقراطيين» في المقام الأول، خرجت عن السيطرة. وعند وفاة ماو، كانت «عصابة الأربعة» تدير تلك الثورة وفق برنامج للإطباق الكلي على السلطة. قدم دنغ كسياو بينغ «بديلاً» آخر في تلك اللحظة: السماح بالاستثمار وتكوين رؤوس الأموال الخاصة ما أسس «للمعجزة الصينية» التي غيرت العالم، وباتت حالة لا يمكن تجاوزها في السياسة العالمية الحالية.
المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني الذي افتتح في السادس عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، يحمل أكثر من المؤتمرات السابقة فكرة «البديل» المقترح على عالم يغرق في الحروب والأزمات الاقتصادية، والقلق من الكارثة البيئية المحدقة بالكوكب.
وإذا كان التمديد لزعيم الحزب شي جينبينغ للمرة الثالثة خلافاً للتقليد الذي أرسي في الثمانينات والنقاشات في شأن خطر الانهيار الاقتصادي الصيني بسبب تضاؤل نسب النمو وإمكان انفجار الفقاعات المالية والعقارية، من الأمور المتوقعة على جدول أعمال المؤتمر وقد دار في شأنها نقاش طويل، إلا أن الحزب الشيوعي لم يتخلّ عن تمسكه بـ«البديل» الذي يرى أن فكر الرئيس الحالي يطرحه أمام العالم: الدور المركزي للدولة في توجيه المجتمع من جهة، مع حرية رأس المال (الذي لا يغيب عن رقابة الدولة بأي حال من الأحوال) من جهة ثانية. بكلمات ثانية، صيغة متوازنة من الحكم ذي القبضة الحديدية مقابل فرص مفتوحة لتحسين مستوى حياة الملايين من المواطنين. ومن المعادلة هذه يُفترض أن تبرز حلول مشكلات الفقر في الأرياف والتفاوت بين الفئات الاجتماعية المختلفة وصعوبة تحقيق القفزات التكنولوجية المطلوبة للعودة إلى نسب نمو عالية في ظل التدخل الحزبي في شؤون البحث العلمي والتجديد التقني.
على المستوى الدولي، يلقى النموذج هذا، من دون ريب، ترحيباً في دول أنهكتها الفوضى وعضها العوز، في حين أن التطبيقات الصينية لم تكن مشجعة حتى الآن، ليس فقط بسبب المواجهة الأميركية الضارية للتمدد الصيني، ولكن أيضاً بسبب مشكلات بنيوية في أسلوب إدارة السياسة والاقتصاد الصينيين في الخارج… وهذا بحث آخر.

التعليقات معطلة.