العراق… رضي المقتول ولم يرضَ القاتل
أرنست خوري
عراقيون يرفعون في اعتصام في الموصل صورا لأقاربهم المفقودين (13/4/2022/فرانس برس)+الخط–
لا تندر الأدلة على أنّ الماضي ممنوع عليه أن يمضي في أماكن كثيرة من العالم، منها المنطقة العربية. حمل يوم الأربعاء الماضي دليلاً إضافياً على أنّ الماضي عندنا، كلما كان مظلماً، كانت فرصه أكبر لأن يحتلّ الحاضر والمستقبل معاً. في ذلك اليوم، حاول رئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي، إغلاق أحد المواضيع التي لا يُحبَّذ الحديث عنها في العراق منذ ثماني سنوات. قال إنّ المختطفين الذين يُرمز إليهم بـ”المغيبين” من سكّان مدن العراق وشماله وغربه ووسطه، خصوصاً من الأنبار وصلاح الدين وديالى ونينوى وبابل، والمُقدر عددهم بين 15 ألفاً و22 ألفاً، والذين اختطفتهم مليشيات من “الحشد الشعبي” بين 2014 و2017، خلال هربهم من مناطق قتال “داعش” والجيش العراقي و”الحشد الشعبي”، ليسوا مغيبين، بل “مغدورون فارقوا الحياة”. إعلان أعطاه الحلبوسي معنيين: مصارحة أخلاقية لذوي الضحايا، ونقل الملف من حالة الإنكار إلى بحث تعويض الأهالي مادياً.
“خصوصية” هؤلاء المغيبين ــ المغدورين من أبناء تلك المناطق لا تكمن في أنّهم ضحايا حرب أهلية يصعُب وصف درجة دمويتها التي طاولت مجموعات سكانية متعدّدة الانتماءات الطائفية والدينية والعرقية والمناطقية. “خصوصيتهم” أنّهم لم يكونوا ضحايا إرهاب “داعش” بل مليشيات تأسست لمحاربة “داعش”، أي “الحشد الشعبي”، يد إيران الضاربة في العراق التي صارت جزءاً من القوات المسلحة العراقية. وقضية المغيبين ــ المغدورين من كلاسيكيات الحروب الأهلية؛ هم من العرب السنّة، احتلّ “داعش” مناطقهم منذ فضيحة ــ تواطؤ سلطات نوري المالكي عام 2014، فقتل التنظيم من سكان المناطق تلك مَن رفض التعاون معه ولم يقبل تأدية دور العبودية، وتعاطف عدد آخر من السكان مع التنظيم، ولاذ جزء ثالث بالصمت خوفاً على حياته ورفضاً لمغادرة أرضه، وهرب من استطاع إلى ذلك سبيلاً، وحاربه كثيرون من أبناء عشائر ومدن وأرياف، وكلّ ذلك بين عامي 2014 و2017. والضحايا الذين يُرمز إليهم بالمغيبين ثم المغدورين هم بغالبيتهم من الفئة التي حاولت الهرب عندما اشتدّت المعارك في مناطق سكنها وحولها، ومن الثابت أنّهم مدنيون، الجزء الأكبر منهم ذكور فُصلوا عن عوائلهم وغالباً ما اقتيدوا إلى مخيمات ومناطق حولتها مليشيات الحشد إلى معسكرات مغلقة، وبعض تلك المناطق لا تزال محظورة على أهلها حتى اليوم (أشهرها جرف الصخر). وهناك، بحسب ما يعرفه عراقيون كثر، تمت تصفيتهم باعتبارهم “تكفيريين” مفترضين، أو على الأقل بيئة حاضنة لداعش، وإلّا لما ظلوا مقيمين في المناطق التي حكمها التنظيم. من هنا يمكن فهم الغضب الذي انتاب منصات إعلامية مرتبطة بفصائل أبرزها “كتائب حزب الله” العراقية و”عصائب أهل الحق”، من استخدام الحلبوسي مصطلح المغدورين، فكتبت قناة “صابرين نيوز” على منصة “تليغرام”: “لا تتعجب بالحديث عن المغيبين، نعم فصيل وحده واجهه 15 ألف تكفيري” في إشارة إلى المغيبين ــ المغدورين إياهم.
قضية المغيبين ــ المغدورين لم تغب يوماً في أوساط العرب السنّة العراقيين. ظلّ شعار الكشف عن مصيرهم حاضراً في كلّ مرّة يعيَّن فيها رئيس حكومة جديد منذ 2017. يَعِد الوافد الجديد خيراً، ثم يعود الملف إلى موته السريري. و”الكشف عن مصيرهم” كان بنداً أساسياً في اتفاق مقتدى الصدر مع أكبر فصيل كردي (حزب البارزاني) وأكبر تحالف للعرب السنّة “السيادة” (محمد الحلبوسي وخميس الخنجر). لكنّ هيمنة المليشيات إيرانية الولاء على العراق جعلت من المحظور إكمال عبارة التعريف عن هوية الخاطِف. ظلّ اتهام المليشيات بشكل عام ممكناً، أما الذهاب أبعد وتسمية “الحشد الشعبي”، فإنما في ذلك نوايا انتحارية يجب تفاديها مهما كان الثمن. والثمن هنا كان ظلماً مستداماً منذ ثماني سنوات، يُراد له أن ينتهي بإقرار ممثل الضحية لا القاتل بحصول الجريمة، وبوهم تخصيص تعويض مالي حتى لو أُقرّ، فسيظل قاصراً عن أن يكون بنداً في مصالحة وطنية يستحيل أن تتحقق في ظلّ هيمنة طائفية مسلحة.