جائزة مسجد باريس للرواية: المصالحة بين الدين والإبداع
الرسول شاهد مع عائشة عرضاً فنياً للأحباش بالمسجد النبوي والجمال يصفي نفس المؤمن من الكراهية
شمس الدين حفيظ المحامي الجزائري الفرنسي رئيس جامع باريس الكبير (أ ف ب)
ما رمزية تأسيس مسجد باريس الكبير لجائزة في الرواية؟ هي من دون شك سابقة مميزة في علاقة الأدب المعاصر بالمؤسسات الدينية الإسلامية.
تأسيس جائزة للرواية في مسجد باريس، هل هو محاولة للمصالحة ما بين الديني والجمالي، ما بين الثقافي والعبادي Culturel et cultuel؟
هل المؤسسة الدينية الإسلامية الموجودة في بلاد الغرب قادرة على التجريب والاجتهاد أكثر من تلك التي على تراب الدول الإسلامية في المشرق وشمال أفريقيا؟
أن يفتح المسجد فضاءه للأدباء والمبدعين، فيجلس الروائي قبالة المنبر ويسمع رجل الدين خطاب الروائي ويستمع الروائي إلى حديث القيم على المسجد، أن يتبادل الخطاب الديني والخطاب الأدبي رسالة الغزل وسؤال شؤون الحياة، مثل هذه الحال تقول لنا إننا نبدأ مشواراً حضارياً جديداً، إذا ما تأكد وتوسع واستمر بجدية، فإنه سيقطع الطريق على المتطرفين الذين صادروا ولزمن طويل المؤسسة الدينية وجروها إلى زاوية رؤيتهم فأضحت فضاء لإنتاج ثقافة الكراهية ورفض الآخر ونبذ الجمال ومعاداة صناعه من الشعراء والروائيين وبقية أفراد قبيلة الفنون على اختلافها.
لقد أطلقت عمادة مسجد باريس الأعظم برئاسة مديرها الأستاذ شمس الدين حفيظ، هذه السنة 2022 جائزة للرواية، وقد كان عدد النصوص المشاركة كثيراً ومتنوعاً، وأول ما يؤكد جدية وقوة المشروع وصدقية الجائزة هي تشكيلة لجنة التحكيم التي تولت قراءة النصوص وتصنيفها وتقييمها واختيار الفائز منها.
لقد تشكلت لجنة تحكيم جائزة الرواية برئاسة الأستاذ شمس الدين حفيز عميد مسجد باريس الكبير، من أسماء وازنة في عالم الإبداع والبحث والإعلام وهم على التوالي: بنجامين سطورا (مؤرخ ومحرر تقرير مصالحة الذاكرة بين الجزائر وفرنسا) جون بيير ألقباش (رمز من رموز الإعلام الثقافي وصاحب برنامج مكتبة مديسيس) وفيليب روبيني (المدير العام لمنشورات كالمان – ليفي وأحد الكتاب المميزين) وجان – لوك باري وسليمان لبشير ديان وبيير لوروا وجولي كوتوريي وعائشة مقداحي وهيلين كارير دونكوس وجون موتابا وأميلي بوتي وجان – روبير بيت، وهي أسماء مؤثرة في الحقل الثقافي والإعلامي والسياسي في فرنسا وفي شمال أفريقيا بشكل عام.
ليس من السهل جمع هذه الأسماء الوازنة ثقافياً وعلمياً وإعلاميا في لجنة تحكيم لجائزة الرواية لمسجد باريس، وهو ما يمنحها صدقية وانتباهاً إعلامياً في بلد كفرنسا تعج بالجوائز الأدبية التي تفوق ألف جائزة ما بين محلية وأوروبية وعالمية.
وفي دورتها الأولى 2022 منحت جائزة الرواية لمسجد باريس للروائي الفرونكو – جزائري كزافيي لو كلير واسمه الحقيقي هو حميد آيت طالب، عن روايته “رجل بلا عنوان” الصادرة عن منشورات غاليمار 2022، وهي رواية خلد فيها الكاتب مسيرة والده القادم من بلاد القبائل بالجزائر في مطلع الستينيات 1963 للعمل بنورمانديا، وفيها يعرض ما عاناه هذا الأب كسائر أبناء جيله من أجل عائلته وكيف قاوم المحيط العنصري بصبر وإيمان، ومن خلال ذلك تطرح الرواية أيضاً مسألة جرح الهوية وقلق الوجود الثقافي واللغوي لجيل كامل الذي ورثه لأجيال لاحقة.
بالتأسيس لجائزة الرواية يكون مسجد باريس قد قدم نموذجاً عصرياً وحضارياً لما يجب أن تكون عليه صورة مساجد العالم الإسلامي المعاصر في علاقتها بالأدب والرواية والشعر والسينما والفن التشكيلي والمسرح، وفي علاقتها بمنتجي الخيرات الجمالية والفكرية.
فالمسجد كمؤسسة ثقافية لا يتوقف دوره عند احتضان الصلوات اليومية وخطب الجمعة التي أصبحت للأسف، في أغلبها، مليئة بالشتم وسب المرأة والآخر والدعوة على مؤمني الديانات الأخرى من يهود ومسيحيين بالهلاك.
بهذه الجائزة الأدبية المخصصة للرواية يعيدنا مسجد باريس إلى بعض مهمات المسجد الأساسية: مهمة احترام الإبداع والترويج له، وقبول الرواية كجنس أدبي معبر عن الحرية وعاكس لما يجري في هذا العالم المعقد من تحولات خطرة ومفصلية على المستوى السياسي والاجتماعي والأخلاقي.
ونحن نتابع انطلاق هذه التجربة في الاحتفاء بالرواية وبالروائيين في حرم المسجد، مسجد باريس الكبير، نسترجع بعض ما كانت عليه صورة المسجد أيام الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، حين كان الإسلام دين يسر، ألم يكن المسجد فضاء للعبادة لكن أيضاً كان مجالاً للرواة يجتمعون فيه للحكي وتبادل الأخبار والأساطير، وألم يكن كذلك حيزاً يلتقي فيه عارضو الفرجة من الأحباش، وحكاية الرسول محمد عليه الصلاة والسلام مع عائشة وتفرجهما على عرض فني للأحباش داخل المسجد بكل متعة وفرح، كما تقول كتب التراث الفقهي، يدل بالفعل على أن المسجد كان فضاء للعبادة وللثقافة وللفن الراقي.
حين نتأمل العمران البديع والمدهش لبعض المساجد في الأندلس الإسلامية أو في بعض بلدان الشرق الإسلامي وشمال أفريقيا ندرك كم كان الذوق الفني حاضراً في رفع أعمدة هذه الفضاءات الدينية بجمال وبإبداع، وهو ما يؤكد هذا التقارب ما بين الحس الديني الراقي والحس الفني الجميل، فلا أخلاق راقية من دون حس جمالي راق، ولا عبادة عميقة من دون حس جمالي عميق، الجمال يفتح شهية العبادة ويصفي نفس المؤمن من كل كراهية وحقد أو ضغينة.
لقد أصبحت كثير من المساجد التي تقام في العالم العربي والإسلامي اليوم، للأسف، على عمران مبتذل ومن دون ذوق جمالي وكأنما تبنى، أكثرها، لاجتماعات حزبية وسياسية وليس لعبادة تأملية في جمال الله والكون والإنسان.
حين نتأمل هذه القطيعة ما بين جمال العمران ومؤسسة المسجد فإننا ندرك الخواء الجمالي والثقافي للمشرفين على إدارة مثل هذه المؤسسات وهو خواء أساسه القطيعة ما بين الديني والجمالي، ما بين أهل الدين وأهل الأدب، وهذه الحال هي ما يؤسس لثقافة العنف ويفرغ الدين من بعده الجمالي ويرمي به بين مخالب السياسة والأيديولوجيا.
لقد تخرج غالبية كبار الأدباء وكبار الشعراء والناثرين الجريئين والفلاسفة من بين حصي المساجد، فالمسجد في أصله مؤسسة اجتهاد مفتوحة على الحياة قبل انفتاحها على الآخرة، متوجهة للإنسان الحي لا إلى الميت، خطاب المساجد للأحياء لا للموتى أو للمرشحين للموت.
ومسجد باريس وهو يؤسس لجائزة الرواية، بمثل هذه الخطوة الحضارية غير المسبوقة، يجعلنا نتساءل: هل ستحذو بعض المساجد الكبرى في العالم العربي والإسلامي مثل هذا الحذو فتؤسس لجوائز في الشعر أو في الفن التشكيلي أو في السينما أو في المسرح؟ وبذلك تعيد للمسجد جزءاً من حقيقته التاريخية والفلسفية والإنسانية وتحرره من الخطاب العنيف وتوصله إلى خطاب التسامح وحب الحياة والجمال.
هل سيتحرك الأزهر أو جامع الجزائر الأعظم أو جامع الأمويين أو القرويين أو الزيتونة وغيرها، على سبيل المثال فقط، للخوض في تجارب من هذا القبيل، لأن الخطاب الديني لا يمكنه أن يحرر الإنسان المسلم إلا إذا تحررت المؤسسة التي يؤمها هذا المؤمن يومياً، ولا يمكن لهذه المؤسسة أن تتحرر إلا إذا تحرر القيمون عليها، ولن يتحرر القيمون عليها إلا إذا تصالحوا مع الفن والأدب والحياة.