الغرب من الداخل..بؤس الإيديولوجيا!
المصدر: النهار العربي- خاص
ميسي بالبشت يرفع كأس العالم في الدوحة.(أف ب)
A+A-إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا* لم يكد رئيس الفريق الأرجنتيني يرفع كأس العالم لكرة القدم بنهاية بطولة 2022، وهو يرتدي “بشتاً” (عباءة سوداء مذهبة)، حتى رن الهاتف معلناً ورود المكالمة الأولى من صحافي منزعج أراد أن أصادق على انطباعاته الأولية على ذلك الرداء “المثير للإستغراب” أكثر مما رغب في الاستماع إلى إجاباتي عن أسئلته. لم يعجب هذا الصحافي الاسباني، وعدد كبير من الإعلاميين والمعلقين السياسيين والرياضيين الغربيين، ناهيك بجمهور النشطاء المعارضين لمونديال قطر، أن تميم بن حمد أمير قطر ألبس ليونيل ميسي العباءة العربية التقليدية المسماة في منطقة الخليج العربي بـ”البشت”. واعتبر ذلك “إجراء غير مبرر… يدل على عجرفة السلطات القطرية وازدرائها بقيم الرياضة والحضارة”. تلقيت بعد تلك المكالمة استفسارات مماثلة من وسائل إعلام، بعضها يسأل عن تقليد “الخلع” وما إذا كان هناك أي دلالة لـ “البشت”، في حين سعى البعض الآخر إلى إقناعي بأن قضية العباءة المذهبة التي راجت على نطاق واسع في غضون ساعات قليلة هي دليل آخر على “النوايا الخبيثة” التي كانت دولة قطر تبيّتها وتريد تحقيقها من خلال هذا المونديال “المشؤوم”. خارج السياقاجتهدت في جدال الصحافي الأول والثاني ومن تلاهما بأن وسائل الإعلام الغربية مصممة على مقاربة ملف قطر بطريقة غير منطقية تغلب عليها الأهواء والمواقف المسبقة والأحكام المطلقة، مشدداً على أن “حادثة البشت” التي يصرون على تحويلها إلى قضية في غاية الخطورة يجب أن تُعاين ضمن سياقها الاجتماعي والإقليمي. واعتبرت أن لا داعي لهذا الهوس الاعلامي والبحث عن تأويلات باطنية تخدم أجندة إيديولوجية تتصل بالحرب الضروس التي تشنها وسائل الإعلام الغربية على مونديال قطر منذ شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. والحقيقة أن صورة النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي وهو يرتدي “البشت” أثارت سجالاً حامي الوطيس في الغرب، لكن لم يكن لها أي ارتدادات تذكر في أنحاء أخرى من العالم، لاسيما في المجتمعات العربية. فمن يعرف الثقافة العربية وتحديداً التقاليد البدوية، يفهم بالضرورة معنى أن يهديك مضيفك عباءته. وبهذا الخصوص ذكرتني صديقتي السورية سمر بأن هناك عبارات وأقوالاً شائعة حول خلع هدية من هذا النوع، مثل “ألبسك عباءته أو بشته” حاضرة بقوة في بعض اللهجات البدوية في بلاد الشام والعراق للتدليل على ذروة التكريم والتشريف. كما تحفل كتب الأدب العربي بذكر خلع شخص ما عباءته على شاعر تغنى بخصاله، وذلك تعبيراً عن امتنانه لمادحه.“النفاق” الألمانييشعر من يراقب ردود الفعل الاعلامية الغربية على ما حدث في الأسابيع الأخيرة في سياق كأس العالم 2022 بالصدمة جرّاء شيوع الصور النمطية والمغالطات بشأن الثقافة العربية عموماً والعادات والتقاليد الخليجية خصوصاً. وأكثر ما استرعى انتباهي هو تعبير مذيعة في التلفزيون الألماني عن إحساسها بـ”القرف” لرؤية أفضل لاعب لكرة القدم في القرن الواحد والعشرين وهو “يُكره” إكراها على ارتداء هذا “اللباس البدائي الخشن”. وما يزيد الأمر غرابة هو أن الشركة المسؤولة عن إنتاج بشت ميسي، التي تضاعفت مبيعاتها في الأيام التالية، تستورد النسيج المطرز بالذهب الموجود على جانبي العباءة واسمه “الزري”، من ألمانيا بلد تلك الإعلامية الغاضبة “واسعة المعرفة”، حيث اشتدت الحملة الرسمية وغير الرسمية ضد ما سُمي بـ”مونديال العار”! على كل حال، هذه ليست المفارقة الوحيدة في تعاطي الألمان مع الدولة الخليجية نفسها. فقد استنكرت وسائل الإعلام الألمانية والأوروبية وضعية العمال الأجانب في قطر طوال العقد الماضي، وهاجمت بشدة نظام “الكفالة”، ولكنها تناست أن نسبة كبيرة جدا من الشركات التي استفادت من القوانين القطرية وفرضت على مستخدميها شروط عمل مجحفة ورواتب زهيدة هي… أوروبية! بصرف النظر عن كون قطر دولة دكتاتورية تقمع حقوق العمال والمثليين أم لا، وهناك انتقادات موجهة إلى سياساتها في مجال حقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة، فإننا نتساءل من أين جاء هؤلاء الغاضبون بهذا التفسير القائل إن خلع “البشت” هو خير دليل على الثقافة الاستبدادية السائدة في المجتمعات العربية الشرقية، أو على منطق “الهيمنة الذكورية” و”ازدراء النساء والأعراق والطوائف الأخرى غير العربية الإسلامية؟ ورأى بعض الاعلاميين الذين اتصلوا بي أن تقديم “البشت” لميسي يعبّر عن نوايا سياسية وإيديولوجية انتهازية، في مقدمتها أن قطر ومعها الدول الخليجية ذات النفوذ الاقتصادي ترغب في انتهاج سياسة توسعية جديدة تقوم على نمط حكم بعيد كل البعد عن قيم الديمقراطية والحرية؟ ونبّه أحدهم إلى أن القطريين حاولوا إخفاء قميص رئيس فريق الأرجنتين وحجب شارة بلاده وألوان علمها التي ترتسم على قميصه، واستبدال العباءة، رمز الثقافة البدوية، بها! سمعنا مثل هذا التعليق في أكثر من إذاعة محطة تلفزيونية غربية وهي تبثّ أمامنا على الهواء مباشرة صوراً لعشرين شخصاً يرتدون قمصان الأرجنتيين المخططة بالأزرق والأبيض وهم يصيحون ويتقافزون فرحاً ويهتفون لبلادهم من منصة التتويج، بمن فيهم ليونيل ميسي ذاته الذي بدا قميصه من تحت البشت الشفاف واضحاً. الأرجنتين أحبت “البشت”ثمة مفارقة وهي أن الصحافة الأرجنتينية لم تمتعض مثل بعض الصحف الأوروبية لأنه لبس “البشت”، وإنما وضعت الأمر في سياقه الثقافي الطبيعي، فأبرزت قيمة العباءة المذهبة الدلالية وأهميتها الرمزية لجهة تكريم من تُخلع عليه. في غضون ذلك، سارع المئات من المشجعين الأرجنتينيين بعد ساعات من المباراة النهائية إلى أسواق الدوحة لشراء “البشت”، على الرغم من أسعاره المرتفعة. إن ربط “البشت” بلعبة الأمم واستراتيجيات السيطرة على العالم هو سلوك لا طائل منه، وإن دلّ على شيء فإنه يدلّ على إشكالية ثقافية خطيرة. لم يكن الغربيون يعرفون شيئاً عن “البشت” قبل المباراة النهائية للمونديال، إلا أنهم أصبحوا اليوم يلمون به ويفهمون رموزه المضمرة ودلالاته “الخبيثة”. أما كيف استطاعوا التوصل في غضون أيام قليلة إلى هذه المعرفة العميقة فهذا أمر عجيب فعلاً! يؤلمني بصورة استثنائية كمواطن أوروبي أن أرى مدى انحطاط وسائل الإعلام عندنا ومعها مجموعة من الأوساط الثقافية والعلمية وهي تتناول القضايا المتعلقة بالثقافات الأخرى، عربية أو إفريقية أو آسيوية أو أمريكية لاتينية، بمثل هذه الفظاظة. ويذكرني ذلك بكتابات الاستشراق في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الحافلة بالأخبار الإكزوتيكية عن البلاد العربية والإسلامية. وتحضرني بشكل محدد صورة الحمّام الشهيرة التي تحولت رمزاً للغرائبية الشهوانية ووعاءً لجميع التصورات الأوروبية الجنسانية عن الشرق، من خلال كم هائل من الرسوم والروايات واليوميات التي هدفت خصيصاً للكشف عن أسراره. ثم تبين لنا أن الرحالة الأوروبيين الذين كتبوا عن الشرق بإسهاب أو رسموه في لوحاتهم الفنية بحماسة مفرطة لم يدخلوا حمّاماً واحداً في حياتهم، ولا عهد لهم “بالحريم” الذي يحتفظ به كل رجل كبير الشأن في مسكنه، كما كانوا يزعمون. إذا سمح لنا إخوتنا الأوروبيون أن نفسر لهم أن “التبشيت” لايحتمل كل هذه المعاني والدلالات السلبية التي أقمحوها عليه، فإننا قد نتوصل معاً إلى نتائج إيجابية، بعيدا عن التعميم والتبسيط، ولكن على من تقرأ مساميرك يا داود!•مستعرب وأكاديمي إسباني، صدر له كتاب “قطر، لؤلؤة الخليج” بالتعاون مع إعناطيوس الفارس أوسوريو، برشلونة، 2022.