العراق في 2022: استقطاب داخلي حاد وحروب من الخارج
المصدر: النهار العرب يرستم محمود
الحكومة العراقية الجديدة
A+A-شهد العراق خلال العام 2022 تحولات مهمة واستقطابات حادة. فللمرة الأولى منذ سنوات، وربما عقود، تغيّر مشهد التحالفات وسط تجاذب سياسي حاد وواضح هذا العام، وتمثل بخروج كتلة التيار الصدري من “منظومة السلطة”، حكومياً وبرلمانياً، وانسحب إلى مساحة “المعارضة الشعبية”، تاركاً الكتلة السياسية النظيرة، المتمثلة بقوى “الإطار التنسيقي”، لأن تحكم لوحدها، وهو ما لم يشهده العراق قط من قبل، حيث كانت الحكومات السابقة تتشكل على قاعدة المحاصصة والشراكة بين مختلف القوى السياسية. تحوّل آخر شهده العراق وتمثل بالهدوء الأمني داخلياً، باستثناء مواجهات المنطقة الخضراء التي قضى فيها عشرات من التيار الصدري في اشتباكات مع القوى الأمنية ومسلحين موالين لـ”الإطار التنسيقي”، في مقابل ارتفاع وتيرة الهجمات الخارجية على العراق، سواء من قِبل تركيا أو إيران، خصوصاً على مناطق في إقليم كردستان، أو من قِبل قوى عسكرية أخرى، التي هاجمت مواقع لفصائل “الحشد الشعبي”، أو قوافل لنقل الأسلحة. فخلال الأسبوعين الأولين من العام 2022، تمكنت القوى السياسية العراقية من عقد أولى جلسات البرلمان، بعد ثلاثة أشهر من إجراء الانتخابات، في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2021، وانتخب في جلساته الأولى بداية العام محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان مع نائبين له، ما نشر حالة من التفاؤل بشأن إمكان حدوث انفراجات في الحياة السياسية العراقية، انطلاقاً من تأثير الكتل البرلمانية الفائزة في تشكيل السلطة الحاكمة. لكن الاستعصاء حدث بعد الجلسة البرلمانية الأولى مباشرة، مع إعلان المحكمة الاتحادية تأييدها للتفسير الدستوري الذي يقول إن جلسة انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن تتم في حضور “ثلثي أعضاء البرلمان”، الأمر الذي منع التحالف الثلاثي الفائز في الانتخابات، التيار الصدري والحزب الديموقراطي الكردستاني وتحالف “العزم” من الاستمرار في مشروعهم السياسي، وأدى ذلك إلى دخول البلاد مرحلة “الجمود السياسي”.
طوال ستة أشهر كاملة، وعلى رغم جولات المفاوضات المكوكية بين مختلف القوى السياسية العراقية، ومع كل التدخلات الإقليمية والدولية، لم تتمكن قوى “الإطار التنسيقي” ونظيرتها في التيار الصدري (صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر) من التوصل إلى أي اتفاق سياسي. فقد كان التيار مصراً على تشكيل حكومة “أغلبية سياسية”، فيما كانت قوى “الإطار التنسيقي”، المقربة من إيران، ترفض تسهيل المهمة لأي حكومة لا تكون توافقية بالكامل. واتخذت المواجهة السياسية حينها طابع الصراع الشخصي بين السيد مقتدى الصدر وأبرز قادة “الإطار التنسيقي” نوري المالكي، على خلفيات صدامات سابقة بينهما.
وشكلت استقالة 73 برلمانياً من التيار الصدري في منتصف العام 2022 زلزالاً سياسياً في البلاد، غيّر التوازنات العامة. فقد خرج التيار الصدري فعلياً من “منظومة الحكم” تماماً، وصار يعتبر نفسه معارضاً جذرياً للقوى السياسية المشاركة في السلطة. فيما صارت قوى “الإطار التنسيقي” تملك أغلبية برلمانية واضحة، فانتُخب عبد اللطيف رشيد رئيساً للجمهورية، ثمّ كلّف محمد شياع السوداني تشكيل الحكومة الجديدة، بالرغم من كل الضغوط الشعبية التي مارسها الصدريون، وعبر التحالف والتوافق مع حلفائه السابقين، وصولاً إلى صدامات خطيرة حصلت في بغداد ومناطق أخرى أثارت القلق من اندلاع حرب شيعية – شيعية.
اتجاه صحيح؟الباحث والكاتب العراقي أنس المشهداني شرح في حديث لـ”النهار العربي” كيف أن هذا الافتراق السياسي العراقي، وبالرغم من مخاطره الشديدة، شكل خطوة نحو الاتجاه الصحيح في الحياة السياسية في البلاد، وقال: “ربما منذ عهد الحكم الملكي، هي المرة الأولى التي يعرف فيها العراقيون أن ثمة طرفاً سياسياً حاكماً وآخر معارضاً. وتالياً ثمة مجموعة ضخمة من المسؤوليات وآليات المحاسبة التي لا يمكن توزيعها على مختلف الفاعلين، وتالياً صار من الصعوبة بمكان تهرّب الحاكمين مما قد تنتجه سياساتهم وسلوكياتهم السياسية خلال مدة حكمهم هذه”. يضيف المشهداني، أنه “في المقابل، لا بد من الحذر من موضوعين تفصيلين قد تواجههما الحياة السياسية العراقية مستقبلاً، فمن جهة، هل سيتمكن التيار الصدري من الحفاظ على هدوء كتلته الشعبية حتى موعد إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة، والمرجح أنها لن تجري قبل سنوات؟ وهل عودته إلى الشارع ستكون حدثاً عادياً هذه المرة؟ المسألة الأخرى كامنة في إمكان انقلاب المشهد في ما لو خسرت القوى الحاكمة حالياً أي انتخابات مستقبلية، وتالياً هل ستقبل هي بدورها ترك منظومة الحكم، ولو موقتاً، للتيار الصدري أن يحكم وحده؟ سيكون العام 2023 اختباراً كبيراً لذلك”. 0% استهدافات خارجيةأمنياً وعسكرياً، بدأ العراق العام 2022 بسلسلة من الصدامات والمواجهات العسكرية ذات الطابع الخارجي. فخلال الأسبوع الأول منه، تساقطت عشرات الصواريخ “مجهولة المصدر” على “معسكر زليكان” الذي تتخذه القوات التركية مقراً لها في محافظة نينوى (الموصل)، تلتها هجمات جوية وبرية تركية على محافظتي دهوك ونينوى الشماليتين، ثم أحبطت القوات العراقية هجوماً ضخماً بالطائرات المسيّرة، كان مُعداً لاستهداف قاعدة عين الأسد الأميركية. وكان كل ذلك نذيراً لسلسلة من الحوادث الأمنية والعسكرية الخارجية الشبيهة. في أواسط شهر آذار (مارس) 2022، وبينما كان العراق غارقاً في أزمته السياسية الطاحنة، تعرضت القنصلية الأميركية في مدينة أربيل (عاصمة إقليم كردستان)، ومبنى مدني قريب منها، لهجوم صاروخي مركز، تبناه “الحرس الثوري” الإيراني في وقت لاحق، معتبراً أن الأمر جاء كرد فعل على مقتل عدد من الإيرانيين داخل سوريا، جراء عمليات القصف الإسرائيلية هناك.كان القصف الإيراني إيذاناً بسلسلة من الهجمات الصاروخية والمدفعية التي شنتها إيران على مختلف المناطق داخل إقليم كردستان العراق، معتبرة أن تلك الهجمات تستهدف معسكرات ومقار للأحزاب السياسية الكردية الإيرانية.
الهجمات الإيرانية التي ترافقت مع زيادة وتيرة الاحتجاج داخل المدن والبلدات الكردية داخل إيران، لاقت احتضاناً سياسياً عراقياً داخلياً متواضعاً، مقابل رفض إقليمي ودولي. لكن الطرف الإيراني أصر على الاستمرار بتلك الهجمات، ما لم تقم السلطات العراقية بالانتشار على كامل الشريط الحدودي بين البلدين، وإخلاء مخيمات اللاجئين الأكراد الإيرانيين من الأحزاب الكردية الإيرانية. في المقابل، واصلت تركيا عملياتها العسكرية داخل الأراضي العراقية، خصوصاً في إقليم كردستان، حيث نشرت القوات التركية عشرات القواعد ونقاط الارتكاز الجديدة، شمال وشرق محافظتي دهوك وأربيل، وقامت بعمليات القصف الجوي لمناطق مختلفة من محافظة السليمانية ونينوى، وبالذات مناطق سنجار، بحجة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، لكنها أدت في أكثرها إلى وقوع ضحايا مدنيين.المشكلة الخارجية… داخلية؟الكاتب والمحلل السياسي بهجت سورجي عزا في حديث لـ”النهار العربي” هذه الحوادث الأمنية إلى الظرف السياسي الداخلي العراقي، معتبراً أن استمرارها مرتبط بإعادة ترتيب الحياة السياسية في البلاد، وقال إن “ثمة شيئاً عبثياً في العراق، إذ لا تتفق القوى السياسية العراقية حتى على عمليات القصف العسكري الخارجية التي تستهدف البلاد. فإذا كانت تركيا هي الجهة الفاعلة، يكون التنديد فقط من الأحزاب المحسوبة على إيران، وذات اللون الطائفي المعين. وإذا كانت إيران هي الفاعلة، يحدث العكس. لذلك، فإن المشكلة الأمنية والعسكرية للعراق مع دول الجوار هي مشكلة داخلية، كامنة في عدم اتفاق القوى السياسية العراقية الرئيسية على معنى الأمن القومي العراقي وجوهره، كدولة حرة وذات سيادة”. “بحبوحة” اقتصادية… ولكن!اقتصادياً، شهد العراق واحداً من أكثر الأعوام “بحبوحة”. فقد تضاعفت موجودات البنك المركزي العراقي بشكل استثنائي، مع ارتفاع أسعار النفط العالمية، التي تجاوزت حدود 130 دولاراً للبرميل الواحد قبل انخفاضه في نهاية العام، فيما كان العراق يصدر أكثر من 3.5 ملايين برميل نفط يومياً، وقرابة 400 ألف برميل من إقليم كردستان. في السياق ذاته، فإن الحكومة العراقية شاركت في القمة الخماسية التنموية، التي ضمت إلى جانب العراق أربع دول عربية مركزية، هي مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. هذه القمة التي كانت تستهدف خلق مناخ من التعاون التنموي بين الدول العربية، إلى جانب التنسيق الأمني والسياسي في ما بينها. التطلعات الاقتصادية العراقية مرت خلال هذا العام عبر توافق اقتصادي بين الحكومة المركزية ونظيرتها في إقليم كردستان، وهو قائم على تأجيل الخلافات بين الطرفين إلى حين إيجاد حل جذري للخلاف النفطي والمالي بين الطرفين، عبر طرح قانون للنفط والغاز في البلاد، خلال الشهور الأربعة الأولى من العام المقبل، إلى جانب التوافق على موازنة العام المقبل، لتكون استثمارية وتحفيزية، تسعى لتقليل النفقات قدر المستطاع. لكنّ ختام العام 2022 جاء مع تدهور كبير للدينار العراقي أمام الدولار، ما أثار مخاوف من استشراء الغلاء مع بدايات السنة الجديدة، في حال لم تنجح الحكومة في تدارك تبعات ذلك.