1

مخرج فيلم “انعتاق” : لم أر مثيلا لـ “ويل سميث”

تمكن أنطوان فوكوا من إنجاز فيلمه الجديد الجميل والقاسي على رغم كل الصعاب. يتحدث إلى إيلي هاريسون عن انتقاله من حياة الشوارع في بيتسبرغ إلى استوديوهات هوليوود، وأهمية الإيمان، ولماذا كان فيلمه الأخير أصعب ما قام به على الإطلاق.

إيلي هاريسون  

ويل سميث و أنطوان فوكوياما ( أ ف ب/ غيتي)

كان أنطوان فوكوا صغيراً عندما تعرض لإطلاق نار في شوارع مدينة بيتسبرغ، بنسيلفانيا، لكن ذكرى الحادثة ما زالت حية بشكل مذهل. يقول المخرج البالغ من العمر 56 سنة وصاحب فيلم “يوم التدريب” Training Day الحائز على جائزتي أوسكار: “كنت في الخامسة عشرة من عمري… أتذكر أنني كنت أجري في زقاق وأن الجو كان ماطراً وأنني سمعت صوتاً يقول “اركض”. لا أعرف من أين أتى النداء، لكنني أتذكر بدقة تلك اللحظات بكل تفاصيلها”.

الاستماع إلى فوكوا وهو يصف ما حدث يشبه مشاهدة تسلسل مشاهد من أحد أفلام نيو نوار التي يخرجها. يقول، “ارتطام الطلقات بأعمدة الاتصالات الهاتفية، وتحولها إلى شظايا، والصوت… والمطر المنهمر على الرجل الذي كان يطلق النار. النظارات التي كان يرتديها والبندقية التي يحملها في يده”. يترافق كل مشهد موصوف بإيماءة: يبسط فوكوا كفيه على اتساعهما في إشارة إلى الطلقات، ويمرر عقد أصابعه قرب عينيه لتجسيد المطر، بينما تضغط سبابته على زناد وهمي. يتابع: “أتذكر أنني ذهبت بعدها إلى المتجر، وأنني رأيت الدماء تسيل على الأرض فعلياً، وأتذكر أنني كنت أفكر في عائلتي”، كما أنه تخيل جنازته ورائحة الزهور تملأ رئتيه. وفكر في الله حيث إنك “في بعض الأحيان ترى الله في أسوأ لحظاتك” كما يقول.

نجا فوكوا من إطلاق النار بالطبع. ووصف تلك اللحظة ذات مرة بأنها “ضربة فرامل هائلة”، لأنها أخرجته من حياة الشوارع وأدخلته عالم السينما، وتحول الإيمان الذي أدركه خلال تجربة الاقتراب من الموت هذه إلى الشريان النابض لجميع أفلامه، الذي يتجلى بأبرز صوره ربما في فيلم الجريمة المشوق والمثير “يوم التدريب” الذي أخرجه عام 2001، حيث ينقسم العالم إلى ذئاب وأغنام. فاز دينزل واشنطن بأوسكار أفضل ممثل عن تجسيده شخصية ضابط فاسد ومتوحش في قسم مكافحة المخدرات في شرطة لوس أنجليس، هو ألونزو هاريس، الذي ارتكب سلسلة شنيعة من الجرائم، بينما كان حريصاً على تعليق صليب كبير حول رقبته طوال الوقت. الملاحظة الأولى عن النص التي كتبها واشنطن، وهو متعاون دائم مع فوكوا ومسيحي متدين، كانت عبارة من الإنجيل: “لأن أجرة الخطية هي موت” (رومية 23:6). هناك تلميح للدين في جميع أفلام فوكوا اللاحقة، من المغامرة التاريخية “الملك آرثر” King Arthur إلى الدراما الرياضية “الأعسر” Southpaw وفيلم الويسترن “السبعة الرائعون” The Magnificent Seven وأفلام امتياز “المعادل” Equalizer التخريبية. وفي فيلمه الجديد الوحشي والجميل “انعتاق” Emancipation يلعب الإيمان دوراً حيوياً في إبقاء البطل، العبد الهارب الذي يجسده ويل سميث، على قيد الحياة.

يقول فوكوا بصوت هامس عميق: “أكون مهتماً إذا شكل الحب والإيمان جوهر الفيلم… لما كنت سأجلس هنا أدردش معك ما لم يكن هناك إله أو قوة أكبر مني”. يحدثني جالساً على كرسي وثير في غرفة بأحد فنادق لندن، في تجسيد للأناقة والهدوء ببدلته السوداء وبلوزته الكحلية ذات الياقة وحذائه الجلدي الكلاسيكي اللامع مثل لمعان سيارة شيفروليه موديل مونت كارلو التي كان يقودها الضابط ألونزو في فيلمه.

الممثل إيثان هوك، الذي شارك في بطولة “يوم التدريب” في دور مبتدئ بريء يتورط بسبب تصرفات ألونزو الملتوية، قال ذات مرة إنه يعتبر جميع أفلام فوكوا “صرخة جماعية ضد السلطة”. يهز فوكوا رأسه موافقاً على الكلام ويقول، “إيثان محق. إنها صرخة تخرج لا شعورياً. السبب وراءها جميعاً هو الظلم، والناس الذين يداس عليهم ويعاملون بسوء. لقد نشأت في منطقة قاسية، لذلك رأيته يحدث لوالدي. يمارس الناس الاستغلال وأنا لا أحبه على الإطلاق. سواء أكانت السلطة أو شخص متنمر وراء ذلك. أنا لا أحب المتنمرين”.

يغص “انعتاق” بأسوأ المتنمرين. إنه مستوحى من قصة صورة “بيتر المجلود” التي انتشرت سنة 1863 كاشفة القسوة المروعة للعبودية الأميركية، وأصبحت صورة مرتبطة بقضية إلغاء عقوبة الإعدام. يلعب سميث دور العبد الهارب الذي يبدو ظهره فقط في الصورة، متشققاً ومكسواً بالندبات الناجمة عن الجلد الذي لا يرحم. يتماهى سميث تماماً في الدور لدرجة أننا لا نعد نراه كنجم سينمائي. إنه رجل لديه مهمة من أجل الحرية خلال سنوات الحرب الأهلية الأميركية. إنه يحدق بتحد في وجه الكلاب المزمجرة ومالكي العبيد الذين يبصقون عليه، ويخوض في المستنقعات ويقاتل التماسيح في طريقه إلى جيش لينكولن في بيتون روج. في بعض الأحيان، تمر دقائق عدة من دون أي حوار، ولحظات يكون فيها سميث متسمراً في مكانه بطريقة أكثر تأثيراً، يعض على أسنانه ونظرة عينيه متجمدة. في أول ظهور سينمائي له بعد حادثة صفعة الأوسكار، يجسد بروعة الأنفة والكرامة اللتين نراهما في بيتر، الرجل الحقيقي في الصورة الأصلية.

يقول المخرج: “يتمتع ويل بقدر كبير من الكرامة… إنه إنسان عظيم. لم أقابل شخصاً مثله من قبل”. تفاجأ فوكوا عندما رأى سميث يضرب كريس روك على خشبة المسرح في حفل توزيع جوائز الأوسكار في مارس (آذار) الماضي، بعد أن سخر الممثل الكوميدي من رأس زوجة سميث، جادا بينكيت سميث، الحليق، ويوضح: “صدمت لأنه لم يكن ويل الذي أعرفه، ولكن الجميع كانوا يتعرضون لكثير من الضغط في حياتهم. من الصعب أحياناً أن تكون مشهوراً في هذه الظروف. وفي بعض الأحيان يعبر الإنسان عما في داخله لكن ذلك لا يحدث بالطريقة الصحيحة. آمل أن يتمكن ويل وكريس من رأب الصدع. إنهما رجلان طيبان فعلاً، وليسا شخصين سيئين على الإطلاق… وهذا أمر صعب، أليس كذلك؟ لا يوجد إنسان مثالي. كان ويل نادماً للغاية. تحدثت إليه بعد الحادثة وكان يبكي. كان متألماً ببساطة، أتفهمين قصدي؟ علينا أن نكون حذرين. من الجيد أن يمازح بعضنا الآخر، لكن في بعض الأحيان، علينا جميعاً أن نكون أكثر مراعاة قليلاً”.

22.jpg

ويل سميث  بدور بيتر في فيلم “إنعتاق” (آبل)

تعاني بينكيت سميث من تساقط الشعر. ويقول فوكوا إنه يدرك المشاعر المؤلمة المرتبطة بتساقط الشعر، موضحاً: “أعلم أن تجربة جادا مختلفة، لكن هناك شخصاً أعرفه أصيب بالسرطان أخيراً… لقد فقد شعره بالكامل ويمر بأحداث كثيرة، وإن لم تكن على دراية بذلك في بعض الأحيان وسخرت من الموضوع قد يكون الضرر أعمق مما يمكنك إدراكه. يعاني المشاهير المشكلات نفسها التي يواجهها الكثير من الأشخاص الآخرين. إنهم يمرون بعذابات نفسية وشخصية لا نراها أبداً”.

بعد المشادة التي حدثت في حفل توزيع جوائز الأوسكار، شوهد دينزل واشنطن يسرع للوصول إلى سميث. لاحقاً، أثناء خطابه الممزوج بالدموع الذي ألقاه عند تسلم أوسكار أفضل ممثل عن أدائه في فيلم “الملك ريتشارد” King Richard، كشف سميث عما قاله له واشنطن: “كن حذراً عندما تكون في قمتك، هذه هي اللحظة التي يترصدك فيها الشيطان”. يقول فوكوا ماداً يديه العريضتين في إيماءة عناق: “قيام دينزل بمحاولة إحاطة ويل بذراعيه وتقديم بعض النصح له كان رائعاً… هذا هو دينزل. نتحدث كثيراً عن الإيمان عندما نلتقي أكثر من أي موضوع آخر”.

33.jpg

اللحظة التي ضرب فيها ويل سميث كريس روك في حفل توزيع جوائز الأوسكار (أ ف ب/ غيتي)

من المؤكد أن فوكوا كان بحاجة إلى بعض الإيمان أثناء صناعة “انعتاق”. ابتلي الفيلم بالمشكلات منذ بداية إنتاجه. كان من المفترض في الأصل أن يصور في جورجيا، لكن التصوير انتقل إلى لويزيانا احتجاجاً على قوانين التصويت التقييدية في الولاية، والتي أثرت في المقام الأول في الأوساط الملونة، ثم ضرب إعصار إيدا مدمراً المنطقة ومؤدياً إلى تأخير التصوير أكثر، كما أن الفيلم صور في ظل القيود الصارمة التي فرضها وباء كورونا سنة 2021 وتحت درجة حرارة تتجاوز 40 مئوية. يقول فوكوا بضحكة خفيفة: “أنا ما زلت أتعافى… إنني أعاني اضطراب ما بعد الصدمة وأنا أحدثك عنه. كان من المفترض أن يستمر التصوير أربعة أشهر لكنه امتد لثمانية أشهر في نهاية المطاف. كان على شركة آبل إحضار سترات تبريد للجميع لتخفيض حرارتهم. كان أصعب شيء فعلته على الإطلاق. واجهنا كل الصعوبات التي يمكن أن نواجهها. احترقت مقطورتي ذات ليلة بينما كنت أصور في مستعمرة حقيقية”. أسأله كيف يمكن لشيء كهذا أن يحدث، فيجيب بنظرة حزينة وعارفة وكأن لديه تفسيراته الخاصة: “نعم، هذا هو السؤال بالضبط… كانت تجربة قاسية حقاً”.

أثر موضوع الفيلم في فوكوا وطاقم العمل. ويقول إنه كان على وشك البكاء معظم الوقت وكان عليه الاستحمام مباشرة بعد التصوير كل يوم، موضحاً: “لقد شعرت بالاشمئزاز… كان عليَّ التخلص من هذا الشعور بالاغتسال، لكننا جميعاً كنا نتلقى جلسات علاج نفسي. ويعود الفضل في استمراري إلى فريق العمل والممثلين السود والبيض. بعد الإعصار، أصبح الكثير من الأشخاص [العاملين في الفيلم] بلا مأوى لكنهم استمروا في الحضور إلى العمل كل يوم. تتمكنين من تجاوز الأمر عندما ترين أن الإنسانية تتوحد للمساعدة في إخبار قصة ما”.

44.jpg

فوكوا مع سميث خلال تصوير الفيلم (آبل)

الفيلم، مثله مثل جميع أعمال فوكوا، مليء بالعنف الصادم الذي لا هوادة فيه. يمزق كلب ساقي أحد العبيد إلى أشلاء ويخضع شخص آخر لدمغ خده، بينما كانت رؤوس الهاربين تلوح فوق المعسكرات الكونفيدرالية التي كانت على المحك. يقول المخرج: “لا أعتقد أنك تستطيع الفرار من العنف وأنت تحكي قصة عن العبودية… لا توجد مشاهد هنا تناسب من هم أقل من 13 سنة، لكنني أيضاً لم أرغب في أن يكون الأمر استغلالياً – فكل هذه الأمور حقائق. هناك مقولة رائعة، أعتقد أنها للشاعرة مايا أنجيلو، هي “عدم المعرفة صعب، لكن المعرفة أصعب”. كلما تعمقت في موضوع العبودية لم أتمكن حتى من ملامسة سطح قبحها”. خلق فوكوا في “انعتاق” مكاناً يشبه الجحيم على الأرض – معسكرات كونفيدرالية يفقد فيها الرجال، سواء كانوا من السود أو البيض، أطرافهم بسبب المرض، وتفيض القبور الجماعية، وتتعفن الجثث تحت الشمس الحارقة.

كذلك يعتقد فوكوا بأهمية إظهار العنف بغية منع التاريخ من تكرار نفسه. صبيحة اليوم الذي أجرينا فيه حوارنا هذا، حظر موقع تويتر المغني كاني ويست من منصته لنشره صورة صليب معقوف داخل نجمة داوود. كان فوكوا يتابع آخر تعليقات مغني الراب حول هتلر ويتذكر ما قاله عام 2018 عن أن العبودية بدت وكأنها “اختيارية”. يقول فوكوا عن الفنان الذي يعاني اضطراب ثنائي القطب: “آمل فقط أن يحصل [كاني] على المساعدة التي يحتاج إليها… من السخف القول إن “أربعمئة عام من العبودية كانت اختياراً”. لا أعرف لماذا يقول ذلك. ببساطة إنه أمر غير ممكن. من هو ذلك الإنسان الذي يريد أن يكون مستعبداً وأن يفصل عن أسرته ويعامل أسوأ من الحيوان؟”، ما زال استيعاب مثل هذه التجارب صعباً للغاية، ولهذا السبب أراد فوكوا أن يخلق فيلمه من اللحظة الأولى شعوراً بالارتباك. المشهد الافتتاحي، وهو لقطة شاملة صورت من الجو فوق المستنقعات، يجعل لويزيانا في ستينيات القرن التاسع عشر تبدو وكأنها كوكب آخر. يقول ملوحاً بيده في الأثير: “عند مشاهدتها، تعتقد أنك على سطح المريخ… على أية حال، هذا هو عالمنا، هذا ما فعلناه ببعضنا قبل فترة ليست ببعيدة”.

بدأ عرض فيلم “انعتاق” في دور السينما وعلى منصة آبل تي في بلس يوم الجمعة 9 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

التعليقات معطلة.