داود الفرحان كاتب عراقي
مثلما يفعل قارئو الفناجين، خمَّن الخميني في مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» عام 1978 بأن «المجتمع المستقبلي الإيراني سيكون سحراً وخالياً من كل عناصر القمع والوحشية والقوة».
وقامت الثورة «الإسلامية» ضد شاه إيران عام 1979، ومنذ ذلك التاريخ شهدت إيران فوضى سياسية واجتماعية فيها كل عناصر القمع والوحشية والقوة والانزلاق إلى حرب دموية ضد العراق دامت 8 سنوات، وانتهت بهزيمة كبيرة لنظام الخميني عبّر عنها بنفسه قائلاً: «لقد تجرعت كأس السم». وبهذه الجملة المختصرة بدأ «التململ الشعبي الإيراني من الثيوقراطية»، التي رفع راياتها المرشد الأعلى آنذاك الخميني، وتلاه بعد وفاته المرشد الحالي خامنئي. ولم تخلُ إيران من كل عناصر القمع والوحشية والقوة منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا. بل إن النظام الإيراني «الإسلامي» رفع رايات القمع والوحشية والقوة، واكتشف الجميع أن النظام لم يكتفِ بتلك الرايات الإرهابية داخل البلاد، فصدرها خليفته خامنئي إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003 ثم إلى لبنان وسوريا واليمن.
حاول الخميني قبل وفاته تسويق تفسيره للإسلام السياسي بافتراض أن فقهاء الدين يتمتعون بسلطة «إلهية» ليحكموا ويكونوا أوصياء على الشعب والمجتمع، وأصحاب القرار النهائي في المسائل الأخلاقية والسياسية والدينية.
توالى 8 رؤساء جمهورية على إيران منذ سقوط الشاه محمد رضا بهلوي، وتداول السلطة السياسية تباعاً أبو الحسن بني صدر (1980 – 1981)، تلاه محمد علي رجائي في أغسطس (آب) 1981 وقُتل في تفجير مكتب رئيس الوزراء الذي قُتل معه، ثم علي خامنئي (1981 – 1989)، تبعه أكبر هاشمي رفسنجاني (1989 – 1997)، ومحمد خاتمي (1997 – 2005)، تلاه محمود أحمدي نجاد (2005 – 2013)، وبعده حسن روحاني (2013 – 2021) إلى الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي منذ 2021، وما زال في المنصب.
وكلما تجدد المنصب، أعلن المرشد الأعلى أن فوز الرئيس الجديد هو «حكم إلهي». كان المرشد يستخدم بذلك سلاحاً سياسياً مُختلَساً لا وجود له في الأنظمة السياسية الدولية، وهو «الموافقة الإلهية»، إلا أن غالبية الشعب الإيراني لم تقتنع بهذا التعبير المختلس الذي يحاول انتحال عظمة الله سبحانه وتعالى، بافتراض أن النظام الإيراني «نظام ديني»!
في أرضنا الكروية ظهرت منذ جذور التاريخ الإنساني أنظمة «دينية» يقودها رجال دين أو كهنة أو حاكم ديني. وتسميتها العلمية هي «ثيوقراطية» ومشتقة من اللغة اليونانية.
وتكاد تُجمع البحوث الحديثة على أن وجود دين للدولة لا يكفي لأن تكون ثيوقراطية بالمعنى الضيق للمصطلح، الذي يدعي أن الدولة تستمد حكمها مباشرة من سلطة إلهية، فهذه التسمية لها أمثلة قليلة في العالم الحديث، بينما الاستخدام الأكثر شيوعاً هو المعنى الأوسع لدين الدولة المفترض الذي يرد في مقدمة دستورها الرسمي. ولهذه الأنظمة تقويم سنوي معترف به كالعام الهجري الإسلامي والعام الميلادي المسيحي، وهناك أنظمة وتقاويم سنوية أكثر ضيقاً ومحدودية مثل النظام السومري القديم في العراق الذي يرأسه كبير الكهنة ويساعده مجلس من الحكماء بين رجال ونساء. وكذلك مصر القديمة حيث يرتبط الفراعنة بحورس أو أوزوريس، ويُنظر إلى الفرعون على أنه مسؤول عن التوسط بين الآلهة والشعب. وفي اليابان، يُعد الإمبراطور تاريخياً سليل آلهة الشمس والقائد الأعلى للشعب الياباني، إلا أن هذا التوصيف تغير بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يعد الإمبراطور إلهاً حياً وإنما رأس النظام الديمقراطي الحاكم.
وهناك تسميات أخرى اندثرت تقريباً مثل أباطرة روما القديمة، والنظام البوذي في بلاد التبت، ونظام الخانات (جمع لقب خان) في منغوليا وهو نظام ثيوقراطي بوذي اندثر في بدايات القرن التاسع عشر. وعرفت الصين تسمية «ابن الجنة» على غرار الإمبراطور الروماني، وهي تسمية لم تتجاوز الطقوس الاحتفالية.
أعود إلى ما بدأت به من ادعاء نظام الخميني ثم خامنئي أن نظام إيران الحالي هو نظام إلهي، وليس نظاماً دينياً عادياً. واستند دستور إيران إلى القناعة بأن هذا البلد إمبراطورية عالمية من الناحية المثالية، ولها أن تحكم شعبها كما تشاء، وأن تنقل صورتها إلى جميع شعوب الأرض التي يجب أن تكون مثالية وفقاً لنظرية خرافية. وخُيل للخميني ولخلفه خامنئي أن مثالية هذه النظرية توجب عقاب أي انتهاك لـ«الوصايا العشر» بالإعدام مهما كان سن الفاعل أو جنسيته أو جنسه؛ رجلاً أو امرأة.
في القرن السادس عشر كانت جنيف، سويسرا، دولة ديمقراطية، وتمت الدعوة إلى الفصل بين الكنيسة والدولة، لأن القوة السياسية التي يمارسها رجال الدين هناك، على أساس يومي، هائلة وباطشة. وتم استبدال الحاكم المحلي بحاكم إقليمي فيدرالي خارجي وملاحقة اتحادية مكثفة لقادة الكنيسة، وإيجاد حلٍ نهائي للخلافات المتعلقة بالزواج التعددي.
نحن الآن في طهران وليس في جنيف، ورجل الدولة هو نفسه رجل الدين ورجل القانون ورجل المشنقة ورجل القنبلة الذرية.
أمامي نموذج آخر مختلف وشهير: الدالاي لاما، وهو القائد الأعلى للبوذيين في إقليم التبت منذ طفولته في عام 1935 إلى عام 1959، ويمثل القيادتين الروحية والدنيوية في هذا الإقليم. وهو راهب مهذب وصاحب نكتة، وقد تم نفيه من قبل مؤسس الصين الشعبية ورئيس جمهوريتها الراحل ماو تسي تونغ الذي حقق انتصارات عسكرية على رئيس الصين السابق شيانغ كاي شيك الذي انسحب نحو جزيرة تايوان، وأسس فيها جمهورية الصين الوطنية التي تطالب الصين حالياً باستعادتها. والمفاجأة الخبرية أن معظم عائلات سكان منطقة التبت كانوا من المسيحيين الشرقيين الكاثوليك والأرمن والروس، وما زال أحفادهم هناك.
أوصلنا المرشد الأعلى الإيراني خامنئي إلى الحكم «الثيوقراطي»، وكلما صدر من المحاكم الدينية الإيرانية حكم بإعدام قائمة أسماء من شباب وشابات إيران المحتجين على الاغتيالات والإعدامات وسوء الأحوال العامة، قال: «إنه حكم إلهي».
أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أن «النظام الإيراني يستخدم القوة القسرية المميتة في قمع الإيرانيين». وقبل أيام، وجه الكاتب والمخرج السينمائي الإيراني محسن مخملياف سؤالاً لخامنئي: «يا خامنئي! من أي قدوة تعلمت كل هذه القسوة في إراقة الدماء»؟