لم تحسن إدارة ترمب في حسمها لملفات عديدة إلا أن القرارات التي اتخذتها تجاه الشرق الأوسط كانت بالاتجاه الصحيح
وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية
استقوى اللوبي الإيراني بتغيير السياسة الأميركية لـ 8 أعوام وتجذر في المؤسسات الإعلامية والحزبية (رويترز)
في الجزء الثاني لتلخيص كتابي الجديد “إيران الجمهورية الإمبريالية والسياسة الأميركية” (Iran an Imperialist Republic and US Policy)، سأستعرض أربعة من المواضيع العشرة التي يضمها الكتاب، ولها تأثير مباشر على الوضع الإقليمي الحالي وعلى السياسة الخارجية الأميركية، و هي أصلاً مرتبطة باستراتيجية طهران الأساسية التي تتلخص بشراء النفوذ داخل القوى العظمى لحماية توسعها في الشرق الأوسط. ومن أكبر “إنجازات” النظام التاريخية منذ العام 2015 هو إقناع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بهندسة وتوقيع “الاتفاق النووي”. وقد بينتُ في الكتاب خلفيات عرض “الاتفاق”. إذ أنه بعكس ما يعتقده الكثيرون، “فالصفقة” لم يتم عقدها فقط عندما بدأت المفاوضات الرسمية قبل عام من التوقيع بل قبل انتخاب أوباما مع أنصار “التقارب” في الكونغرس منذ 2006 وربما أيضاً منذ ما بعد انتخابات 2004. فالتواصل بين “اللوبي الإيراني” وجزء من اليسار الأميركي الراديكالي كان قائماً منذ التسعينيات، وتعمق بعد 11 سبتمبر (أيلول). لذلك فاعتبرتُ في الكتاب أن النظام الإيراني أنشأ كتلة ضغط أثرت بنفسها على تيارات سياسية راديكالية لسنوات، قبل أن تصل هذه الأخيرة إلى مراكز القرار، مما سهل تمرير الاتفاق، وعبره جندت مصالح كبرى تحولت إلى “الحامي” الحقيقي لسياسة التعاون مع طهران. معادلة عميقة، طويلة، معقدة وقوية.
“اللوبي الإيراني”
كثيرون يشيرون ولكن قلائل يعرفون ما هيته وتاريخه وقدراته وتأثيره. لقد سعيتُ في هذا الكتاب أن أشرح جذوره وتطوره وتأثيره الحقيقي على حلقات المجتمع وعلى المؤسسات، آملاً أن يدخل الكونغرس الجديد عبر جلسات استماع مستقبلية، إلى تفصيلياته العديدة. تاريخياً النظام أنشأ شبكة ضغط للدفاع عن مصالحه منذ إقامة الجمهورية الإسلامية في 1979، ولكن هذه الكتلة لم تكتسب تأثيراً حقيقياً خلال العقد الأخير للحرب الباردة، بل بدأت تتوسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في 1991، واستفادت من لوبيات سبقتها كانت قد أوجدتها أنظمة وقوى كالنظام السوري والشبكات المرتبطة به من راديكاليين شيعة. إلا أن انقلاباً في الاستراتيجية الإيرانية الخارجية سمح لها باستيعاب، ربما حتى “شراء”، جزء من الشبكات الراديكالية المتعاملة مع السوفيات خلال الحرب الباردة، بما فيها ما سمي بـ “قوى السلام” (Peace movements) والقوى المضادة للحرب (Anti-War)، التي خسرت الداعم الدولي في الكرملين خلال التسعينيات، فانقضت طهران بقدراتها وبمساعدة الأكاديميين الراديكاليين لتجند تلك الأوساط لصالحها.
وبدوره أثر هذا اللوبي على مستشارين سياسيين، لا سيما لدى يسار الحزب الديمقراطي، ويا للمفارقة أيضاً لدى فئات أقصى اليمين الانعزالي. وأطلقت على هذه المناورة الإيرانية اسم “الكماشة” لأنها اعتمدت على جناحين في الدوائر السياسية الأميركية. ومع وصول إدارة أوباما إلى السلطة، دخل مشروع الشراكة مع النظام الإيراني إلى صلب الدولة الأميركية. فحصل تناقض بين القوانين الأميركية والعقوبات الموضوعة سابقاً، وسياسات الانفتاح على طهران لـ 8 أعوام متتالية، فانصدم شركاء وحلفاء واشنطن لتغيير السياسات تحت إدارة أوباما، ولكن معظمهم لم يكونوا على اطلاع بعمق الاتفاق وتعاظم قوة اللوبي والمصالح المالية في الغرب التي ارتبطت بالوعود الإيرانية. واستقوى اللوبي الإيراني بتغيير السياسة الأميركية لـ 8 أعوام وتجذر في المؤسسات الإعلامية والحزبية إلى حد حماية صلبة للاتفاق بالرغم من رفضه من قبل الأكثرية في الكونغرس. ويكمن سر هذا النفوذ المتصاعد، كما بينته في الكتاب، في استمالة شركات كبرى لعقد صفقات مباشرة مع إيران ووضع كل ثقلها في الميزان لدفع إدارتي أوباما وجو بايدن للابقاء على الاتفاق والأهم تعديل سياسات المنطقة “لتتلائم مع مصالح الاتفاق”. إلا أن خطر ما داهم هذه المعادلة في 2017.
هجوم ترمب المعاكس
ربما لم تحسن إدارة دونالد ترمب في حسمها لملفات عديدة أكانت داخلية أو خارجية، إلا أن القرارات التي اتخذتها تجاه الشرق الأوسط، لا سيما تجاه إيران، كانت بالمقارنة مع سلفها، متقدمة وبالاتجاه الصحيح، ولا سيما الانسحاب من الاتفاق في 2018، ووضع “الباسدران” على لائحة الارهاب في 2019، ومواجهة الميليشيات في عام 2020، فأحدث صدمة لدى طهران وحلفائها في واشنطن بما فيهم المصالح المرتبطة بالاتفاق، مما أشعل معارضة شرسة ضد ترمب لأربعة أعوام، وهنالك اعتقاد بأن كتلة الضغط هذه تموقعت مع المعارضة ضد الإدارة، وشاركت في إسقاطه عبرالإعلام والتعبئة الانتخابية.
وفي الحلقة المقبلة سنستعرض تحليل الكتاب لجهد بايدن للعودة للاتفاق، عمق اللوبي الفعلي، والاحتمالات الآتية.