يتيح لها الفن اختلاق عوالم خيالية والتعبيرعن أفكارها ومشاعرها حيال الآخرين والعالم
الرسامة المصرية الكفيفة هند خليل (خدمة املعرض)
التحدي الذي واجهته الرسامة هند خليل عندما فقدت القدرة على الرؤية لم يكن سهلاً، فقد اضطرت إلى ترك عملها كمعلمة لغة إنجليزية، كما لم تكن قد تعافت بعد من إصابتها بسرطان الثدي. بعد أشهر قليلة أكمل الرحيل المفاجىء لوالديها دائرة الاكتئاب الخانقة من حولها. بدا العالم كأنه يتقلص أمامها وتتغير معالمه، وكان عليها أن تختبر قدرتها على الصمود.
بقليل من التأمل أدركت خليل أن لا مفر من التعايش مع حياتها الجديدة، فقررت أن تشغل وقتها بالهواية التي طالما أحبتها، وهي الرسم. يتيح لها الرسم اختلاق عوالم خيالية، والتعبير عن أفكارها أو ربما مشاعرها تجاه الآخرين. ولكن كيف تستطيع الإلمام بالأشكال وهي لا ترى أمامها سوى بصيص خافت من الضوء؟ غير أن مجرد التساؤل والاستغراق في البحث عن حلول كان من شأنهما انتشالها من دائرة الاكتئاب، فعقلها صار منشغلاً بأمور أخرى غير هذه التحولات القاسية في حياتها.
وجه فتاة مرسوم باللمس والبصيرة (خدمة المعرض)
أدركت هند خليل أن الوسائل التقليدية للرسم لم تعد مُجدية بالطبع مع وضعها الجديد، وكان عليها البحث عن وسائل مختلفة واستنهاض حواسها الأخرى للاهتداء بها. هذا إلى جانب البصيص الخافت من الضوء المتبقي لها، والذي يتيح لها التعرف على الظلال. إهتدت خليل أخيراً إلى هذه الخامة المرنة المصنوعة من المطاط الملون حين كانت تزور إحدى المكتبات. بعد تحويل هذه الخامة إلى قصاصات وشرائط صغيرة تمكنت من توظيفها في تلوين المساحات، كما أن ملمس الخامة وسُمكها النسبي أتاحا لها استشعار أبعادها على مساحة الورق من طريق اللمس.
الوجه المتكرر
الوجه بألوان وأشكال متعددة (خدمة المعرض)
كان الوجه أكثر هذه الأشكال تكراراً في رسوماتها، ربما لسهولة تكوينه. شكل شبه مستدير يرتكز على كتفين، ثم تتمهل قليلاً في رسم خصلات الشعر وإضافة بعض التفاصيل. ترسم وجهاً لفتاة بضفائر منسدلة على الكتفين، أو وجوهاً لأصدقائها كما تتذكرهم، ترسم كذلك أزهاراً ومشاهد طبيعية. بعد كثير من المحاولات استطاعت خليل التحكم في مساحة الرسم جيداً وامتلاك الخبرة الكافية للتعامل مع هذه الأدوات، وها هي الابتسامة ترتسم من جديد على وجهها.
وجه بنظرات حائرة (خدمة المعرض)
تعرض هند خليل أخيراً مجموعة من رسومها تلك في صالة العرض الملحقة ب”مركز ساقية الصاوي” الثقافي في حي الزمالك في القاهرة. في هذا المعرض قررت خليل الالتفات إلى فاقدي البصر، فالخامة التي توظفها في الرسم تتمتع ببروز واضح، ويُمكنهم تحسسها بسهولة للتعرف على هيئة الأشكال المرسومة. حرصت خليل في رسومها الأخيرة على تأكيد هذه الميزة، فأمعنت في إثراء ملمس الرسم بعدد من الخامات المختلفة كالخيوط وقصاصات الورق وغيرها. وهي تشعر بالسعادة حين يتمكن أي من فاقدي البصر التعرف على الأشكال المرسومة في لوحاتها.
أتاح عرض الأعمال أمام الجمهور لصاحبة هذه التجربة أن تلتقي بآخرين وتحاورهم. كان السؤال الملح والمتكرر على لسان من لا يعرفونها، يتعلق غالباً بالكيفية التي استطاعت بها رسم هذه الوجوه رغم إعاقتها البصرية، وقدرتها على تجاوز محنتها بهذه السهولة. الأمر ليس سهلاً بالطبع، تجيب خليل وتسترسل في الحديث عن تجربتها، ولا تملّ من رواية ما مرت به. ربما كان الحديث عن الأمر في صيغة الماضي له أثر حسن، ويشعرها انها قد اجتازت بالفعل تلك المرحلة الصعبة. لكنها تدرك أيضاً أن تجربتها تلك قد تكون مصدر إلهام للكثيرين. ليس هذا خاتمة الأمر، فإذا نحّيتم جانباً كل هذه التفاصيل المُثيرة للدهشة في تجربة خليل مع الرسم، يمكنكم الاستمتاع كذلك بقدر وافر من الجمال والعفوية في هذه الرسوم، قد لا تجدونه عند آخرين. في هذه اللوحات المصنوعة براحة اليد والبصيرة ستستمتعون بهذه الانتقالات التي تراوح بين القوة والعذوبة بين المساحات، وستُعانق أعينكم هذه الألوان المُبهجة كلحن هادىء وشجي.