الحداثة الرقمية… موت الأوطان وولادة الإله الجديد

1

حين يتغير مفهوم الزمن يتغير معه وبشكل آلي مفهوم الجغرافيا والمسافة

أمين الزاوي  كاتب ومفكر 

صورة تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي لرائد فضاء يركب حصانا (أ ف ب)

كاسك يا وطن!

ستنتهي عنتريات #الخطابات الوطنية والقومية بعد زمن غير بعيد، وستصبح الأناشيد الحماسية التي تعود لزمن الخمسينيات والستينيات من نصيب الأرشيف، تسكن #النوستالجيا.  

كاسك يا وطن!

لقد دقت ساعة أخرى لا تشبهها ساعة أخرى.

حتى إن لاحظنا ارتفاع بعض أصوات الوطنية الشعبوية من اليمين المتطرف في أوروبا أو من دعاة الخليفة والخلافة أو ولاية الفقيه في أرض الإسلام، لكن ذلك ليس أكثر من عبارة عن تعبير عن النفس الأخير لموت معلن ومبرمج، فالعالم يدخل وبعنف دوامة الحداثة الجديدة، الحداثة الرقمية، كما سماها الفيلسوف التونسي فتحي التريكي.

هي حداثة بإيقاع آخر حيث كل شيء سيتغير، الشيء واللاشيء، الأرض والبحر والإنسان واللحم والوقت والمسافة والشجر والفاكهة ولون العيون والسيارة والحساب والتعليم والعمر والشيخوخة والمطر والمشاعر وأسنان الفم واللغة.

كل شيء واللاشيء سيتغيران رأساً على عقب، لقد خرجنا، ولو بشكل جزئي، من الجاهلية، ليست “الجاهلية” كما يفهمها العرب وكما علموها لنا في كتب المدرسة، إنما الجاهلية هنا هي “الجاهلية الميكانيكية” التي طويت ورقتها، إذ بدأ العالم يدخل زمن “الحداثة الرقمية” التي لا مفر منها والتي فيها يتولى الإنسان الجديد غير الجاهلي “صناعة” إلهه بيده، إله يدعو إلى كتابه الذي أمر به هو، كتاب التكنولوجيا الرقمية.

سفر التكوين الرقمي

خلال قرون طويلة مضت من سيطرة الفكر الخرافي والأسطوري والديني والتقني والتي تميزت بسيادة عقل وإيمان وإلحاد بشري يرى في الكون محركاً أو طاقة خارقة هي “الخالق” الإله، ها هو اليوم الإنسان الجديد يؤسس لقطيعة نهائية مع فلسفة تكون الأشياء ومصدرها، الروح والمادة، وتتميز هذه المرحلة التي تعد عملية انقلابية، حيث الإنسان الحداثي الرقمي يسعى إلى خلق إله رقمي جديد يتولى عملية التفكير والتدبير والتكوين في المخلوقات، بمصائرها ومنابتها.

خصوصية هذا “الإله الرقمي الجديد” العمل على إعادة ترتيب العالم من جديد، ترتيب كل صغيرة وكبيرة فيه، منحه قيماً جديدة وتأويلات جديدة، فبموجب ذلك تتحول الأشياء واللاأشياء جميعها إلى كائنات حية، وربما تتحول أيضاً إلى كائنات خالدة، لكن مفهوم الخلود نفسه سيتغير.

مع الحداثة الرقمية الانقلابية وفي ظل هيمنة الإله الجديد الذي مصدره “الذكاء الاصطناعي”، سيعود عباس بن فرناس ليطير، لكن هذه المرة لن يسقط من عل فيموت بغبائه وبطموحه وفضوله غير المؤسس، مع الحداثة الرقمية سيطير عباس بن فرناس في سماء طوكيو وفي سماء بكين أو شيكاغو أو سان بطرسبورغ، سيطير حتى من دون جناح ولا ذيل مسروق من شكل عصفور.

سيطير عباس بن فرناس الرقمي إلى أقصى العالم وقد يطير حتى من دون أن يتحرك، فالعالم هو الذي سيجيئه حتى قدميه.

مع الحداثة الرقمية أصبح الإنسان الجديد الذي صنع إلهه الذكاء الاصطناعي، يستمطر السماء ولا يصلي صلاة الاستسقاء، الغيوم الماطرة أصبحت صناعة كصناعة الزجاج أو صناعة مربى المشمش، وأصبحت للغيوم طرق سيارة يسير بها الإله الرقمي حتى أقصى الصحراء القفر فيسقيها وينبت فيها شجراً ونباتاً وعنباً وأحلاماً.

مع الحداثة الرقمية لن يبدأ التلميذ التعليم من الصفر ولا من الأبجدية، بل سيبدأ من النقطة التي انتهى إليها العلم والبحث، سيتعلم كل شيء من خلال جرعة يتناولها فتسري في مخه فيتعلم على الفور كل ما تعلمته البشرية من قرون، كل ذلك في رمش البصر.

في الحداثة الرقمية ستنتهي اللغات جميعها، وستظهر لغة أخرى تجمع الجميع بعد أن يتم اغتيال اللغات بأيديولوجياتها القاتلة، سيجد العالم نفسه بلغة جديدة من دون أبجدية ولا نحو ولا صرف كما تفهمها اللغات القائمة الآن، لغة سيكون لها صرفها ونحوها الرقميان الخاصين بها، سيحدث هذا في زمن ليس بعيداً، ستنتهي قصائد مدح اللغات، سينتهي عشق اللغات الوطنية والقومية هذا العشق الذي كثيراً ما تحول إلى شوفينية بل إلى كراهية الآخر المنتمي إلى لغة أخرى.

سيتغير مفهوم الزمن في ظل سلطة الإله الرقمي، سيموت الموت الكلاسيكي الذي عاشت البشرية كابوسه منذ “التكوين”، سيظهر “موت آخر”، موت رقمي لا علاقة له بالعمر أو بالزمن أو بالمرض، وسيظهر مفهوم جديد لـ”الخلود”.

وحين يتغير مفهوم الزمن يتغير معه وبشكل آلي مفهوم الجغرافيا ومفهوم المسافة، وتبعاً لذلك يتعرض مفهوم الوطن ومفهوم الحدود ومفهوم العملة إلى انقلاب جذري في المعنى وفي المبنى وفي الفائدة.

وأما هذا، حتى إن كانت بعض الدول في الشمال تخاف من موجات الهجرات البشرية التي تأتيها من الجنوب أو من الشرق، فهذه عبارة عن مقاومات تقليدية ستنتهي قريباً، وفي المقابل سينتهي الخطاب الوطني في الجنوب القائل إن الغريب عدو وستنتهي كذبة الاستقلال التقليدي.

كانت الإمبراطوريات القديمة توسع أراضيها من خلال الحرب والسيف والفارس، تلك الإمبراطوريات التي كان يقال عنها إمبراطوريات لا تغرب الشمس عنها، لكن اليوم تتوسع هذه الإمبراطوريات الجديدة على أسس أخرى ومنطق آخر، إنها إمبراطوريات قائمة على سلطة الرموز الاقتصادية والبنكية والتكنولوجية، فالاستقلال بمفهومه التقليدي أصبح وهماً وكذبة الأغبياء.

اليوم الإمبراطوريات الرقمية الجديدة اختلف شكلها واختلفت فلسفة سلطته، فإمبراطوريات “غوغل” أو “تويتر” أو “فيسبوك” أو “تيك توك” هي إمبراطوريات لا تغرب العين عنها نهائياً!

ستخلق الحداثة الرقمية الإنسان والحيوان ليس من علاقة جنسية ومن رحم أنثى كما ظلت الحضارات والديانات تعلمنا، بل سيخلق هذا الإنسان وهذا الحيوان من خلية ضائعة من رحم زجاجي أو بلاستيكي مخبري. سيتم إنتاج هذه الكائنات كما تنتج الهواتف الذكية والعجائن وقناني الـ”كوكا كولا” وعلب المصبرات.

مع الحداثة الرقمية يتغير مفهوم “اللحم”، لحم الاستهلاك الذي نجده على موائدنا الذي كان بالأمس القريب لحماً من الذبح، اليوم أو بعد أشهر قليلة، سيجد الإنسان نفسه يأكل لحماً مزروعاً كزراعة الطماطم والفلفل والخيار، لحم لا يختلف عن مذاقه وعن تركيبته الغذائية عن اللحم الكلاسيكي، لكنه لحم غير قادم من مذبحة الأنعام والأبقار والخيول والخنازير، إنه يصنع ويزرع في مزارع بيولوجية خاصة، وقد دخلت إسرائيل في الزراعة التجارية الواسعة لهذا النوع من اللحم.

وعلى المستوى الفلسفي حين تتم “زراعة اللحم” فإن مفهوم الأخلاق سيتغير ومعه يتغير مفهوم الإحساس أيضاً، ويتغير أيضاً مفهوم التضحية ومفهوم الدم، وستختلط قيم الحيواني بالنباتي.

ولكن في نهاية الأمر وحتى لا تسقط هذه الحداثة الرقمية في حال من التوحش، ولا تتحول إلى ما يشبه أيديولوجيا “نازية رقمية” جديدة فهي تحتاج إلى فلسفة ترافقها وتسائلها، فلسفة قائمة على قطيعة مع الفلسفات القديمة تقف بعمق أمام سؤال “الأخلاق” و”القيم” بمفهوميهما الحداثيين أيضاً، فلا حداثة رقمية من دون فلسفة رقمية أيضاً.

التعليقات معطلة.