حين تحدث أرثر ميلر بشكل موارب عن زواجه الفاشل مع مارلين مونرو

1

“بعد السقوط” حقق الفشل الأكبر في مساره المهني واعترف بذلك آخر أيامه

إبراهيم العريس باحث وكاتب  الخميس 9 فبراير 2023 3:34

أرثر ميلر أيام “السعادة الوهمية” في رفقة مارلين مونرو (موقع غيتي)

من المعروف عادة أن #الكتابة_المسرحية لا تناسب مواضيع #السيرة_الذاتية لكتاب الخشبة، هذا إذا كانت تناسب أصلاً مواضيع تعتمد على سيرة الآخرين. ومن هنا يمكن النظر إلى “نزوات” يقترفها كتاب صغار فتمضي إلى النسيان، أو كتاب كبار فتعتبر وصمة في تاريخهم الفني.

فكيف إذا كان الكاتب الذي يعنينا هنا، هو واحد من كبار كتاب المسرح الاجتماعي في أميركا منذ الربع الثاني من القرن الـ20 وحتى نهاية ذلك القرن، أرثر ميلر، صاحب تحف مسرحية كـ”موت بائع متجول” و”كلهم أبنائي” وغيرهما من مسرحيات أعادت تأسيس المسرح الاجتماعي على الطريقة الأميركية في جمع بين أنطون تشيخوف وهنريك إبسن، الذي شاء يوماً أن يجرب حظه ليجعل واحدة من مسرحياته تتحدث عن جزء من سيرته؟ وكيف إذا كان هذا الجزء يتناول، بشكل موارب على أي حال ولو جزئياً، حكايته مع زوجته أواخر سنوات الـ50، التي لم تكن سوى “نجمة نجمات” هوليوود، مارلين مونرو؟ والحقيقة أن ميلر لم يوفق كثيراً، في رأي كثر من النقاد، في اختيار المسرح ميداناً لتقديم تفسيرات بل حتى تبريرات لاقترانه بتلك الفاتنة التي أوصلتها مشاكلها الخاصة وإحباطاتها إلى الانتحار في نهاية الأمر، ووضع انتحارها في طريقه نهاية لمنظومة النجوم نفسها ورأى البعض أن التناقض في الشخصية والتطلعات بين الزوجين ربما يكون مسؤولاً عن نهايتها هي التي كانت محبوبة أميركا، ولكن كذلك عن “السقوط” الذي عايشه ميلر في تلك المرحلة من حياته من دون أن تكون هي مسؤولة عن ذلك.

مشهد من تقديم مبكر لمسرحية “بعد السقوط” (موقع المسرحية)

العودة إلى كازان

والحقيقة أن ميلر في كتابته مسرحية “بعد السقوط” في عام 1963 لتقدم عند بداية العام التالي من إخراج إيليا كازان، الذي عاد ليتعاون مع صديقه ميلر بعد سنوات قاسية على الاثنين تبعت “الفضيحة” التي تسببت بها لكازان وشايته على رفاقه السابقين في الحزب الشيوعي الأميركي في شهادته أمام اللجنة الماكارثية سيئة السمعة، ما أغضب ميلر ودفعه إلى مقاطعته، لكننا لن نستطرد في الحديث عن هذا الأمر هنا فتلك حكاية أخرى، والحقيقة أن كثراً حين وصلتهم أخبار كتابة ميلر لـ”بعد السقوط” افترضوا أن المعني هنا هو “سقوط إيليا كازان”، ولكنهم سرعان ما فهموا أن السقوط هنا يشير إلى العلاقة بين ميلر ومونرو أو إلى سقوطها هي الذي أدى إلى انتحارها.

وهكذا من موضوع هرع كثر لمشاهدته على المسرح انحدرت الحكاية إلى موضوع أغضب كثراً من الأميركيين من الذين نظروا إلى “إدانة ميلر لمونرو وإعلانه ندمه على ذلك الارتباط بها شرعياً باعتباره ارتباطاً أنزله عن عرش الجدية والأبعاد الأخلاقية التي كانت تواكب مسيرته إلى أن يتحول إلى ما يشبه زوج الست”. ومن هنا، حتى لو حققت “بعد السقوط” نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ينبني على الفضول والأبعاد الاجتماعية أكثر من انبنائه على قيم فنية، وهي قيم لم يخل منها على أي حال، فإن هذه المسرحية اعتبرت دائماً من أقل مسرحيات ميلر شعبية في أميركا نفسها وفي العالم.

شفافية ما…

غير أن قلة فقط عرفت كيف تربط بين عدم شعبية “بعد السقوط” وموضوعها لا سيما في الأوساط المسرحية التي أخذت عليها بالأحرى كونها تعمدت أن تكون غير خطية في حبكتها، أي ألا تعتمد أسلوب رواية الأحداث كرونولوجياً، بل على الطريقة التي سيتحدث بها السينمائي جان لوك غودار من أن لكل عمل إبداعي وبالضرورة بداية ووسطاً ونهاية “ولكن ليس بالضرورة على هذا الترتيب”. فكيف والمعني هنا حدث في حياة الكاتب له تاريخه وتفاصيله المعروفة حتى وإن كان يتناولها بشكل يبدو بعيداً عن الترتيب المنطقي لتلك الأحداث. ولكن في التفاصيل، عم يتحدث أرثر ميلر في “بعد السقوط”؟ في ظاهر الأمور وليس في ما يختبئ خلف “شفافية” هذا الظاهر؟ إنه يتحدث في ما يشبه تيار الوعي الذي كان قد خلق الحداثة الروائية عند بدايات القرن الـ20، عن كوينتن، المحامي النيويوركي اليهودي وذي الثقافة الرفيعة وهو يفصح عما يدور داخل عقله، وقد قرر ذات لحظة أن يعيد النظر في ما مضى من حياته طارحاً على نفسه أسئلة لا تنتهي، وذلك لكي يقرر في نهاية الأمر ما إذا كان عليه، نعم أم لا، أن يتزوج الآن بهولغا الفتاة التي بات واثقاً من أنه مغرم بها في هذه المرحلة من حياته.

التفكير بصوت عال

ومن ناحية الحبكة، اللافت هنا أن كوينتن في لجوئه إلى التفكير بصوت عال، إنما يتوجه بالحديث الذاتي هذا إلى “مستمع” لا يشاهده الجمهور ويستعرض ميلر أمامه حكاية ثلاث غراميات عرفها في حياته ويحاول الآن أن يرى ما إذا كان هو بريئاً أو مذنباً بالنسبة إلى ما آلت إليه كل واحدة من تلك العلاقات: فمع الأولى لويز، كان يبدو في غاية الانسجام فكرياً، ولكن من دون أن يتواكب ذلك مع انسجام عاطفي، ومن هنا كانا يمضيان وقتهما في تأملات فلسفية رفيعة المستوى لتلك العلاقة بينهما حتى انتهى بهما الأمر إلى الافتراق من دون ضغينة لا من جانبها ولا من جانبه.

أما علاقته مع الثانية ماغي، وهي مغنية “بوب” ونجمة كبيرة في مجالها ولها ملايين المعجبين حتى وإن كان هو سينظر إليها على أنها “ساذجة لا تتمتع بمستوى ثقافي حقيقي”. وهنا يخبر كوينتن مستمعه بأنه كان مدركاً سذاجة ماغي لكنه ارتبط بها ذات لحظة يأس متوخياً أن يعثر لديها على راحة ورهافة عيش موقناً من أنها بسبب عدم اتباعها أي مبادئ حقيقية “لن تتعبني لأن كل ما في الأمر أنها موجودة هنا أمامي تماماً كما قد توجد شجرة أو قطة”، أي كما قد يوجد في الحياة كائن جميل لا يحتاج لأن يكون عميقاً! كائن يرتبط به المرء هكذا وبكل بساطة. غير أن الحقيقة كما يخبرها كوينتن كمنت في أنه لاحقاً وفي عز علاقتهما، اكتشف كم أن سذاجتها تخفي نزوعاً إلى تدمير الذات. “وبالتالي راح يحدث لها بالتدريج أن باتت مدمنة على الكحول ومكتئبة بشكل دائم ما أوصلها بالتالي إلى تناول المخدرات بجرعات زائدة”، وهمها الأساس أن تحولني إلى مجرم قاتل “يعجل في وصولها إلى نهايتها، إن لم يتمكن من منعها من الوصول إلى ذلك الانتحار… المعلن”، “وفي النهاية، لم يكن أمامي إلا أن أتركها، في وقت حققت هي نجاحاً غير مفاجئ في… وضع حد لحياتها”.

عاجز عن الحب

أما هو فيخبرنا الآن أنه أمام ما حدث “تبين لي أنني في نهاية الأمر عاجز عن أن أحب”، وبالتالي “علمت كيف أترك المرأة، أي امرأة تتولى شؤون حياتها بنفسها. وكيف يتعين علي أن أرتضي بالتعامل مع قبح الحياة لأعيش مستجمعاً شجاعة مجابهة كل إحباط يواجهني”. وضمن هذا المنطق ها هو يخبرنا الآن أنه ربما سيمكنه على أي حال، وبشكل أو بآخر، أن يبادل “فتاته” الجديدة هولغا، غراماً بغرام بالنظر إلى أنها هي بدورها تعلمت دروس الحياة “الحقيقية” مثلما فعل هو. وذلك لأنها “خريجة” واحد من معسكرات الاعتقال النازية وقد علمها وضعها هذا حقيقة أساسية وفحواها أنه لم يعد ثمة من براءة وأبرياء في هذا العالم منذ اقترف النازيون المذابح التي اقترفوها. وبالتالي، ها هو كوينتن يقرر أن هولغا، تبدو له امرأة تناسبه أكثر من أي امرأة أخرى طالما أنها من النزاهة بحيث تعرف كيف تجابه افتقارها إلى أي يقين حقيقي، ما يعلمه هو الآخر أن يسامح ويواصل حياته كما هي من دون أن يطرح على نفسه أسئلة كثيرة. فـ”الجواب على كل الأسئلة” لن يكون سوى جواب واحد: أن دمار كل الناس إنما هو دمار كل فرد من الأفراد، وبالتالي لا بد لكل واحد منا أن يجابه هذه الحقيقة بكل شجاعة وحين يفعل ذلك يكون سبيله للتعايش مع الحياة أن يتعلم كيف يسامح وينسى!

التعليقات معطلة.