يوم كان خوف الصعلوك من السينما الناطقة كخوف عكا من هدير البحر
مشهد من “أضواء المدينة” (موقع الفيلم)
كثر من النقاد ومؤرخي #السينما ينظرون عادة إلى الفيلم الذي حققه #تشارلي_تشابلن في عام 1931 بعنوان “أضواء المدينة” باعتباره إلى جانب فيلمين آخرين له ينتميان إلى الحقبة الصامتة من سينما هذا المبدع الكبير “الهجمة على الذهب” (1925) و”الأزمنة الحديثة” (1936) باعتبارها قمة سينماه، وما يشبه “أغنية البجعة” التي أشرت على أية حال إلى نوع من الفصل الأخير لعالمه السينمائي.
صحيح أن تشابلن حقق في الفترة نفسها وعلى السياق نفسه شرائط عدة لا تقل قوة ضمن إطار سينماه الصامتة، وحقق لاحقاً تحفته السياسية التاريخية “الديكتاتور”، لكن قناعته كمهرج كان قد انتهى وصار صعلوكه “شارلو” من ذكريات الماضي. والحقيقة أن تشابلن كان قد حدس بذلك وأبدى خشيته من حدوثه ولا سيما من خلال فيلم “أضواء المدينة” الذي سيرى النقاد أنه كان في شكله كما في مضمونه تعبيراً ولو موارباً عن تلك الخشية، وربما سيكون من الملائم لتوضيح هذا الأمر أن نقفز في الزمن نحو ثلاثة أرباع القرن إلى بدايات القرن الحادي والعشرين.
مخاوف فنان حقيقي
ففي دورة من دورات مهرجان “كان” في الجنوب الفرنسي تعود إلى بدايات العشرية الأولى من القرن الجديد، عرض وفاز فيلم فرنسي صامت وبالأسود والأبيض بعنوان “الفنان” للمخرج ميشال هازانافيكيوس الذي كان معروفاً بمحاولته على الطريقة الفرنسية تقليد أفلام جيمس بوند، ففاجأ الجمهور العريض وأهل السينما بذلك الفيلم الجديد الذي، لما فيه من شفافية، أدرك كثر أن المخرج إنما يبني فيلمه انطلاقاً من استذكاره الحكاية المتداولة عن الرعب الذي عاشه تشابلن نفسه وقد شعر عند بدايات ثلاثينيات القرن العشرين أن صعلوكه بات مهدداً بفقد الجزء الأكبر من سحره، وبالتحديد جراء حتمية أن تتحول السينما من صامتة إلى ناطقة. فنطق السينما الذي كان مجرد أمنية تحول إلى توقع، فتجارب، فواقع حقيقي خلال تلك السنوات التي استبقت انتشار الصوت عام 1929، يوم هلل المبدعون والمتفرجون، وهم يرون الاستوديوهات والممثلين والصالات تدخل عالم الصوت، محدثين قلبة مدهشة في عالم السينما، ولكن في الوقت نفسه، شعر كثر بالقلق من ذلك التبديل الجذري، وكان من بين هؤلاء تشابلن نفسه الذي، وكما يخبرنا فيلم “الفنان”، شعر باليأس معتقداً أن نهايته ونهاية صعلوكه قد باتتا حقيقة واقعة.
في انتظار موت الصعلوك
الواقع أن تشابلن، وقبل الفيلم الفرنسي “الفنان” بكل تلك العقود، عبر بنفسه كما ألمحنا، عن ذلك الرعب في “أضواء المدينة” الذي ذكرناه، في شكل الفيلم كما في مضمونه وإن كان التعبير جاء إلى حد ما موارباً، بالنظر إلى أن تشابلن لم يكن من نوعية الناس الذين يعلنون هزيمتهم على الملأ. وبالنسبة إليه كان انتهاء السينما الصامتة نهاية لـ”شارلو”، حتى وإن كان سيمكنه هو أن يواصل مسيرته الفنية كاتباً ومخرجاً ومؤلفاً موسيقياً وممثلاً طبعاً، وهو ما سوف يفعله على أية حال طوال عقود تالية، وإن لم يكن بالزخم الفني نفسه الذي كان له ولفنه في سنوات السينما الصامتة التي كان “بطلها” الأكبر من دون جدال، لكن استمراريته هو شيء، و”موت” “شارلو” شيء آخر تماماً. فبالنسبة إلى تشابلن كان يعرف حقاً أن النجاح الهائل الذي عاشه “شارلو” إنما ارتبط بصمته وبفن التمثيل الإيمائي “البانتومايم” الذي كان يقوم على التعبير الجسدي والتعبير من طريق ملامح الوجه بالنسبة إلى اللقطات المكبرة. واليوم، يبدو هذا كله مهدداً. ومن هنا، من الواضح أن السينمائي المبتكر وصاحب الخيال الذي لا يحد، سيلجأ في خطوة أولى وقبل أن تصل اللحظة الحاسمة إلى أقصى ما يمكنه من “الاحتجاج” في فيلم كان يشعر بأنه سيكون صامته الأخير، لكنه لم يكن دقيقاً في هذا الاعتقاد إذ سيكون هنا فيلم صامت آخر له يراه كثر أكثر روعة، من ناحية، لأنه كان بالفعل فيلماً انتقالياً ينهي حياة “شارلو” ليبدأ حيوات أخرى تمعن هذه المرة في الدنو من القضايا الاجتماعية، ونتحدث طبعاً عن “الأزمنة الحديثة”، لكن “أضواء المدينة” كان أكثر أهمية بالنسبة إلى ما كان يعني تشابلن فنياً. فهو هنا، وعلى عكس ما كان يفعله مبدعون آخرون (آرثر كونان دويل صاحب شرلوك هولمز، إذ حاول القضاء على تحريه هذا بعد أن فاقت شهرة التحري شهرة خالقه)، قدم تشابلن في الفيلم الذي نتحدث عنه، مرافعة حقيقية دفاعاً عن “مستقبل” “شارلو” على رغم علمه أن ليس ثمة مستقبل وأن عليه هو أن يبدل من مواضيعه، مع العلم أن “أضواء المدينة” كان حتى في هذا السياق نقطة تحول فكرية في مسار تشابلن، إذ عبر فيه عن نفور من الطبقات الموسرة لم يوصله إلى “تطرف” الفيلم التالي والأخير من بطولة الصعلوك.
المليونير “المزيف”
الطبقات الموسرة تلك قدمها تشابلن في “أضواء المدينة”، وبعد مشهد رائع يفتتح الفيلم، وهو مشهد احتفال صاخب في المدينة بتدشين نصب هائل حين يصل رئيس بلدية المدينة لإزاحة الستار ويبدأ خطاباً ثرثاراً، تبدو سخافته بصرياً من دون أن نستمع إليه، في نوع من الإدانة المباشرة للنطق في السينما، ترفع الستارة لنجد الصعلوك نائماً فوق جزء من النصب لكنه يتمكن من التسلل بعيداً، مما يدخلنا مباشرة في مناخ الصعلوك، قدمها إذاً من خلال شخصية رجل واسع الثراء يلتقيه الصعلوك بعد ليلة سكر أمضاها المليونير ليفيق من مأساة إدمانه تلك ويحاول الانتحار، ولكن من حسن حظه، ولكن أيضاً من حسن حظ “شارلو” أن هذا يسرع، من دون أن يعرفه إلى إنقاذه، فيقرر الثري تكريمه مقابل ما فعله ويصطحبه إلى قصره في وليمة بالغة الكرم. وهنا يستبشر الصعلوك خيراً ويفكر من فوره ببائعة زهور فقيرة حسناء لكنها ضريرة أخبرته حين التقاها صدفة أن عملية استعادة بصرها تكلف ألوفاً عديدة من الدولارات، لكنه لم يخبرها بأنه أشد فقراً منها، وها هو ذا الحظ يبتسم لهما من خلال تعرفه بالثري. فهي إذ اعتقدت أن الصعلوك ثري، يعتقد هو أنه سيحصل من “صديقه الثري” على مال يكفي لإجراء العملية، لكن هذا الأخير ما إن يفيق من سكره حتى يطرد الصعلوك من دون أن يتذكر من هو ولماذا هو هنا، فهو حين يصحو ينسى كل ما حدث له خلال سكره وحين يسكر ينسى في المقابل كل ما يفعله وهو صاح.
محاولات لا تنتهي
وهكذا تمضي الأيام والصعلوك يحاول المستحيل ويقوم بمهن ومجازفات عديدة، ولكنه لا يتمكن من جمع ولو جزء يسير من المال الذي تحتاج إليه العملية. وفي النهاية تتيح الظروف له من جديد أن يستعيد صلته بالمليونير، وهكذا يتمكن هذه المرة من أن يحصل من الثري على المال الذي يكفي لإعادة البصر إلى بائعة الزهور، ثم تمضي الأيام بعد شفاء البائعة إنما من دون أن يجرؤ الصعلوك على الدنو من الدكان الذي تمكنت من افتتاحه، وقد باتت سعيدة في حياتها لا ينقصها إلا التعرف إلى “شارلو” الذي لا تزال تحسبه ثرياً، ولا تعرف عنه شيئاً سوى أنه صاحب الفضل في حياتها الجديدة. مهما يكن مقدار خوفه من انكشاف حقيقته، لن يستطيع “شارلو” أن يبقى في منأى عن البائعة، فهو في الحقيقة واقع في غرامها، بالتالي، يكتفي ذات لحظة بالدنو منها ليشتري زهرة وهو واثق ألا شيء سيجعلها قادرة على التعرف إليه! وهي بالفعل تبتسم له كزبون لكنها حين تمد يدها إليه لتعطيه الوردة وتقبض منه ثمنها، تتلامس يداهما فتحدق بعيداً وهي تتذكره بفضول وحنان. بات من الواضح أنها قد عرفته من لمسته، لا من ثيابه ولا من سحنته، وتحل النهاية السعيدة طبعاً ويتحقق حلما البائعة و”الصعلوك” بأفضل ما يكون، ولكن في وقت يقوم فيه تشابلن بدوره المعتاد فيحصل على السعادة لها وله من دون أن يقدم أية تنازلات، غير أن الفيلم نفسه ينتهي في لقطته الأخيرة، وهي لقطة مكبرة، على الصعلوك وقد بدا وللمرة الأولى في تاريخه عجوزاً، وكان من الواضح أن تشابلن شاء لتلك اللقطة أن تكون إيذاناً حزيناً في النهاية، لكنها تأجلت إلى نهاية أخرى مفتوحة على وعي مستقبلي على أية حال هي تلك التي تختتم “الأزمنة الحديثة” ممهدة لأن ينطق تشابلن أبطاله المقبلين من “حلاق” “الديكتاتور” إلى قاتل النساء في “مسيو فيردو”… إلخ.