روايته الثالثة تفضح هشاشة الإنسان الرقمي وتتنبأ بمصير قاتم له
نظرة الرسام فرنان ليجيه إلى العالم (متحف الرسام)
لا عجب في دفع #رواية “اتركوا العالم خلفكم” صاحبها، البنغلاديشي الأميركي #رومان_علم، إلى صدارة #المشهد_الأدبي الأميركي، فما ينتظرنا داخل هذا النص الصاعق، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار “سوي” بعنوان “العالم بعدنا”، ليس أقل من تشخيص بارد وبصير، لحال عالمنا اليوم، وأميركا على وجه الخصوص، في تلك اللحظة الوشيكة التي ينتهي فيها كل شيء.
أن ندير ظهرنا لصخب العالم وسديمه، كما يدعو إلى ذلك عنوان الرواية، مثال يطمح إليه الكثير من الناس. وإن بدا بلوغه مستحيلاً خلال حياتنا اليومية، فإنه يصبح ممكناً خلال العُطَل، ولو لفترة قصيرة. وهذا ما يحاول كلاي وأماندا إنجازه في الرواية، وهما زوجان أبيضان من نيويورك، باستئجارهما فيلا في “لونغ آيلاند” لقضاء عطلة الصيف مع ولديهما. الوسيط العقاري الذي وعدهما بـ “الهروب المطلق”، لم يكذب عليهما. فالفيلا المجهّزة بكل وسائل الراحة، رائعة ونائية عن كل شيء، والغابة المحيطة بها التي تقطنها حيوانات برّية غير عدائية، تضفي لمسة سحرية عليها تتناقض مع بيئتهما المعتادة.
كلاي وأماندا متزوجان منذ 16 عاماً. ومع أن الحب الذي يجمعهما بات يفتقر إلى “التوابل”، لكنه ما زال حياً. زوجان كانا يوفّقان جيداً بين حياتهما المهنية وحياتهما العائلية مع ولديهما، حين قررا قضاء عطلتهما في المكان المذكور. وفي اليومين الأولين من هذه العطلة، بدا كل شيء مثالياً. لكن في مساء اليوم الثاني، يظلّل حدثٌ هذا النعيم، إذ يدوي صوت انفجار هائل فجأة. انفجار يهزّ قاطني الفيلا، لكنهم لا يدركون أن “حياتهم انقسمت في تلك اللحظة إلى جزئين: مرحلة ما قبل الانفجار، ومرحلة ما بعده”.
الحادثة المريبة
الرواية بالإنجليزية (أمازون)
حين يستيقظ المصطافون الأربعة في صباح اليوم التالي، يكتشفون أن التلفاز لم يعد يبث أي شيء، والهواتف النقّالة لم تعد تلتقط الإنترنت. والأسوأ من ذلك، يطرق باب الفيلا رجل وامرأة أسودان يثيران ريبة كلاي وأماندا، قبل أن يدركا أنهما في الواقع جورج وروث واشنطن، صاحبا الفيلا. وبسرعة يفسّر هذان الأخيران لهما أن سبب انقطاع مختلف وسائل البث والاتصال ليس المسافة الكبيرة التي تفصل الفيلا عن أي مدينة، بل شيء آخر مجهول أدّى أيضاً إلى انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد، ولذلك قررا العودة للاختباء في منزلهما… قرار يؤول إلى تعايش قسري بين عالمَين مختلفين كلياً: عالم عجوزين أميركيين أسوَدين وثريين، وعالم عائلة نيويوركية بيضاء من الطبقة الوسطى الفتية. لكن بما أن الطرفَين متحضّران، والفيلا فسيحة، ينجح هذا التعايش، على الأقل، في الظاهر.
من طريقة عرضنا القصة التي يسردها الكاتب علم في هذه الرواية، قد يظن البعض أنها تسلك الدروب المطروقة لذلك النوع الأدبي والسينمائي، الرائج في أميركا، الذي يهجس بموضوع نهاية العالم وما بعده. لكن الحقيقة عكس ذلك. فالروائي يطمح داخلها إلى أن يكون واقعياً قدر المستطاع، وينجح في ذلك. وفي هذا السياق، يلتزم بقرار محفوف بالمخاطر من الناحية السردية: عدم سرد أي شيء تقريباً، فيستبدل قلمه بمبضع ويحلل بدقّة نادرة الحالة النفسية لشخصياته عبر ولوج أفكارها والتأمّل في سلوكها. وبالتالي، لا تطوّرات مشوّقة داخل قصته. وفي ذلك تحديداً، تأتي النتيجة باهرة.
الروائي البنغلادشي رومان علم (دار سوي)
وفعلاً، أكثر ما يشدّنا في “اتركوا العالم خلفكم” هو وقوعها على نقيض الروايات والأفلام والمسلسلات الأميركية الغزيرة التي تصوّر نهايات عالم تضجّ بالأحداث والتطوّرات المرعبة. فهي تضع تحت أنظارنا سيناريو نهاية عالم صامتة، لكن ذلك الصمت الذي يشوبه قلق وشك عظيمان. ففي عزلتهم المطبقة، يجهل كلاي وأماندا وجورج وروث ما يحدث في العالم. ولأنهم يعتمدون كلياً على التلفاز والهواتف الذكية والإنترنت، في تواصلهم مع هذا العالم واستعلامهم في شأنه، يجدون أنفسهم في مواجهة فراغ لا يُحتمَل، ولا يبقى أمامهم سوى الضياع في تخمينات لا تحصى حول ما حدث ويحدث. وبالنتيجة، يصبح كل شيء غير واقعي، كما لو أن العالم توقف فجأة وعلق قاطنوه نهايته التي ترفض حتى الكشف عن وجهها القبيح.
داخل المنزل
الترجمة الفرنسية للرواية (دار سوي)
بعبارة أخرى، تدعونا هذه الرواية إلى تخيّل نهاية عالم نبقى فيها داخل منازلنا في انتظار حدوثها. وبعد العزلة التي فرضها وباء كورونا على البشرية جمعاء، من الصعب عدم السير في هذا السيناريو الذي لا يتخلله أي فعل بطولي أو حدث مأساوي، ويقتصر على الانتظار داخل فراغ صامت لا تقطعه سوى بضعة أصوات قليلة لا تنذر بالخير. فراغ بعيد كل البعد عن السيناريوات الجهنمية التي تخيّلها غيره، نتجمّع فيه مع مَن هم حولنا ونحاول البقاء على قيد الحياة، فنملأ حوض الاستحمام بالماء، ونحصي المعلبات وسائر المؤن المتوافرة في المنزل، ونحاول تمضية الوقت بطريقة أو بأخرى، مستعيدين غرائزنا الحيوانية، الأمومية والأبوية تارةً، والجسدية تارةً أخرى.
وهذا ما تفعله شخصيات الرواية، العادية إلى حد تراجيدي، في انتظار أجوبة على أسئلتها التي تبقى معلّقة حتى الخاتمة. ففي تلك الفيلا التي تتأملها من بعيد الأيائل المهاجرة بشكل جماعي، وتحط في حديقتها ومسبحها طيور نحام وردي تائهة، حدثت نهاية العالم… ولم تحدث بعد، وكل شيء يبدو ممكناً، وفي الوقت نفسه، مستحيلاً. ولذلك، تعلك هذه الشخصيات هواجسها، مخاوفها، وطموحاتها، وتبحث جاهدةً عن دور مفيد تؤدّيه داخل عزلتها، وتتساءل تارةً حول كيفية العودة إلى واقعها السابق، وطوراً كيف وصلت إلى هذه الخاتمة. ولا عجب في ذلك، فحين تصمت كتلة الأخبار التي نغرق داخلها، وحين تتوقف تلك الضوضاء الخلفية التي ترافق حياتنا اليومية، لا يعود يبقى أمامنا سوى شخصنا بالذات، فنتأمّل فيه كما لم نفعل ذلك من قبل.
باختصار، تصطدم هذه الرواية بجدار المعقول، مشرّعةً أبواب الشك والتساؤلات، وفي مقدّمها سؤال رئيس: إذن هكذا ستكون نهاية حضارتنا البشرية؟ وفي هذا السياق، تسدل الستار على مجتمعاتنا الشديدة الارتباط بوسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، كاشفةً مدى هزالة إمكانات الإنسان الرقمي، الذي سينتهي به المطاف، في نظر علم، إماً صريعاً في أحد قطارات المترو، تحت الأرض، أو معزولاً عن الآخرين، داخل جدران منزله، ينتظر توكيد خبر نهاية عالمه.
وكما لو أن ذلك لا يكفي، يتمكّن الكاتب أيضاً، عبر عزله جيلين مختلفين من الأميركيين داخل مكان واحد، من تسليط ضوء كاشِف على العنصرية الكامنة والأحكام المسبقة وصراع الطبقات داخل المجتمع الأميركي، وبالتالي من تكذيب تلك الادعاءات التي تروّج لمتانة الروابط العائلية فيه وتضامن أبنائه.