الاستقطاب السياسي يتحدى روح التضامن في مواجهة كارثة زلزال تركيا

1

الرئيس إردوغان خلال استقباله الأربعاء في أنقرة رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم الذي جاء إلى تركيا متضامناً (أ.ف.ب)أنقرة: سعيد عبد الرازق

كانت تركيا بحاجة إلى نفس جديد يخرجها من دوامة الاستقطاب السياسي، الذي اشتدت حدته، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة في 18 يونيو (حزيران) المقبل وأعلن الرئيس رجب طيب إردوغان تقديم موعدها إلى 14 مايو (أيار).

لم يكن أحد يتصور أن كارثة بحجم فاجعة زلزالي 6 فبراير (شباط) التي ضربت 10 ولايات في جنوب وشرق وجنوب شرقي تركيا، يمكن أن تكون هي الباب نحو هدنة من حالة الاستقطاب السياسي والمشاحنات، التي لم تبدأ فقط مع اقتراب موعد الانتخابات، وإنما وضعت بذرتها منذ عام 2015 عندما عجز «حزب العدالة والتنمية» الحاكم عن الفوز منفرداً بالانتخابات البرلمانية في يونيو من ذلك العام، فلجأ إلى انتخابات مبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، وبين الموعدين وقع ما وقع من أحداث وضعت المجتمع التركي في دوامة الصراعات السياسية التي تعمقت شيئاً فشيئاً، وصعدت إلى درجة أعلى بكثير مع طرح التعديلات الدستورية في نوفمبر عام 2017 للانتقال إلى النظام الرئاسي، بعد واحدة من الحوادث المفصلية تمثلت في محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو (تموز) 2016. التي كان لها من التوابع ما عمَّق مناخ الاستقطاب ودفع إلى تغيير وجه الديمقراطية في تركيا.

ثم جاءت خطوة الانتقال إلى النظام الرئاسي في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المبكرة في يونيو 2018 لتشعل ما يشبه الحرب بين المعارضة و«حزب العدالة والتنمية» برئاسة إردوغان، الذي تحالف مع «حزب الحركة القومية» برئاسة دولت بهشلي، ضمن ما يُعرف بـ«تحالف الشعب»… وأصبحت معركة الاستقطاب في تركيا تدور حول النظام الرئاسي وحكم الرجل الواحد.

من وجهة نظر المعارضة، التي يقودها «حزب الشعب الجمهوري» برئاسة كمال كليتشدار أوغلو، لا تتعلق المسألة فقط بتغيير نظام الحكم، وإنما بما يمكن أن يعتبرونه «الانقلاب» على إرث مصطفى كمال أتاتورك.

وتوالت الأزمات التي صاحبت انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي، سواء على صعيد اقتصاد متراجع منذ عام 2018، أو على صعيد القرارات التي أثرت سلباً على مناخ الديمقراطية والحريات، وكذلك ما لحق بعلاقات تركيا بمحيطها الخارجي، بسبب ما اعتبرته المعارضة «تخبطاً في السياسة الخارجية» كلَّف البلاد الكثير بسبب «تحكم فرد واحد في كل القرارات».

*هدنة قصيرة

جاء السادس من فبراير الحالي، وحلَّت بالبلاد كارثة الزلزال. وبقدر المفاجأة كان الارتباك، وتعمق الاستقطاب في أول يومين لوقوع الكارثة، حيث تطايرت الاتهامات من المعارضة لإردوغان وحكومته بالفشل والتقاعس عن اتخاذ التدابير لمواجهة الكارثة برغم التحذيرات السابقة، كما اتهام إردوغان وحزبه للمعارضة «بمحاولة استغلال الكارثة الإنسانية لأغراض سياسية».

ضخامة الحدث دفعت الجميع إلى التفكير والهدوء بعد استيعاب حجم ما حلَّ بالبلاد. هدأ الخطاب الشعبوي من الجانبين، وشهدت تركيا للمرة الأولى منذ سنين توحيداً للخطاب في وسائل الإعلام المحسوبة غالبيتها على الحكومة، والقليل منها المحسوب على المعارضة، وصولاً إلى فكرة البث المباشر المشترك في حملة لجمع التبرعات، وتوارى كل شيء من أجل التركيز على الكارثة وسبل إنقاذ البشر، ومد يد العون للمتضررين… لكن الأمر لم يدم طويلاً.

وبدا خلال تشييع جنازة رئيس «حزب الشعب الجمهوري» السابق دينيز بايكال، الثلاثاء في أنقرة، أن «ما في القلب في القلب»، وأن كلا الفريقين يقف على ناصية موقفه، وأن شيئاً لم يتغير. وأمام عدسات الكاميرات التي كانت تغطي الجنازة، صافح إردوغان الشخصيات التي تقدمت الجنازة، لكنه امتنع عن مصافحة رئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، فيما لفتت مصافحته خصمه السابق من «حزب الشعب الجمهوري»، محرم إينجه، الذي انشق عن الحزب وأسس حزباً جديداً باسم «البلد» رغم انتقاداته الحادة لإردوغان وحكومته بسبب الاستجابة البطيئة لكارثة الزلزال.

وفتح هذا التجاهل من جانب إردوغان لكل من كليتشدار أوغلو وإمام أوغلو، الباب لتأويلات كثيرة، أهمها، أنه رفض مصافحتهما «لأنهما منافسان محتملان له في انتخابات الرئاسة المقبلة».

ليس هذا هو المشهد الوحيد، الذي أعاد إنعاش مناخ الاستقطاب السياسي وسط الكارثة. فقد كان هناك في اليوم نفسه هجوم حاد شنَّه شريك إردوغان في «تحالف الشعب»، دولت بهشلي، على جمعية «أحباب»، التي يترأسها الفنان التركي خلوق ليفنت، التي لعبت دوراً بارزاً جداً في كارثة الزلزال، وكانت أقوى المنظمات التي بادرت منذ اللحظة الأولى لوقوع الزلزال، ونجحت في جمع تبرعات بملايين الدولارات، فضلاً عن المساعدات والاحتياجات الإغاثية العاجلة، ولقيت حملتها دعماً واسعاً داخل تركيا وخارجها.

شنَّ بهشلي هجوماً حاداً، خلال اجتماع مجموعة حزبه بالبرلمان التركي الثلاثاء، على جمعية «أحباب» وقناة «بابالا» على «يوتيوب»، التي يرأسها أوغوزهان أوغور، التي تدعم حملتها لإغاثة المتضررين من الزلزالين قائلاً: «لا ينبغي أن يتم السماح لـ(أحباب) و(بابالا) وأتباعهما بأن يرفرفوا بأجنحتهم مثل النسور… هؤلاء المحتالون يجب ألا يظهروا على التلفزيون التركي».

وجاء هجوم بهشلي عشية بث مباشر مشترك، ليل الأربعاء، ستجتمع فيه للمرة الأولى منذ سنين طويلة قنوات حكومية وأخرى محسوبة على المعارضة، في حملة لجمع التبرعات لضحايا الزلزال وإعادة إعمار المدن المتضررة تنظمها جمعية «أحباب» بمشاركة العديد من نجوم الفن والرياضة والشخصيات العامة البارزة في تركيا.

وردَّ خلوق ليفنت رئيس جمعية «أحباب» على هجوم بهشلي، قائلاً عبر «تويتر»: «أعتقد أن مستشاري السيد دولت بهشلي ضللوه». كما علق أوغوهان أوغور مالك قناة «بابالا»، قائلاً: «في مواجهة هذه المأساة الكبرى لأمتنا العظيمة، اجتمعنا دون أي تمييز بين حكومة ومعارضة أو على أساس اختلاف الآراء… نعتقد أن السيد بهشلي حصل على معلومات كاذبة… نحن نعمل بالتنسيق مع مؤسسات دولتنا، بالإضافة إلى ذلك، قدم لنا العديد من الأصدقاء منهم نواب بحزب الحركة القومية ذاته دعماً كبيراً… نعتقد أن السيد بهشلي حصل على معلومات خاطئة نحن نجتمع بلا تمييز في مواجهة هذه المأساة الكبرى».

وقوبلت فكرة البث المباشر للقنوات الموالية للحكومة وبعض القنوات المحسوبة على المعارضة، مثل «فوكس» و«شو تي في» بارتياح كبير في الشارع التركي، الذي رأى فيها «خطوة على طريق التضامن وتنحية الخلافات وتخفيف حالة الاستقطاب الشديدة والعراك السياسي الذي لا يتوقف».

* إحياء جدل الانتخابات

في غضون هذا الجدل، تفجر جدل جديد حول موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في 14 مايو (أيار)… بعد أن نشر أحد رفاق إردوغان القدامى وأحد أضلاع «حزب العدالة والتنمية» الحاكم عند تأسيسه رئيس البرلمان الأسبق، بولنت أرينتش، بياناً عبر «تويتر»، ليل الاثنين، دعا فيه إلى تأجيل الانتخابات.

وطعن أرينتش، وهو في الأساس محام مخضرم، في شرعية إجراء الانتخابات في الولايات العشر، التي ضربها الزلزال (كهرمان ماراش، هاتاي، عثمانية، كيليس، أضنة، أديامان، مالاطيا، شانلي أورفا، غازي عنتاب، ديار بكر)، قائلاً إنه «ليس من الممكن قانونياً وفعلياً في ظل هذه الظروف إجراء الانتخابات، يجب تأجيلها»، موضحاً أن تلك الولايات تضرر فيها أكثر من 15 مليون مواطن، ويمثلها 85 نائباً في البرلمان، وباتت القوائم الانتخابية في هذه المحافظات باطلة، وأصبح من المستحيل قانونياً وفعلياً إجراء انتخابات فيها.

واعتبر أرينتش، «أن البلاد بحاجة إلى التخلص من ضغوط الانتخابات في هذه الأيام المليئة بالألم»، قائلاً: «لن تكون هناك انتخابات في مايو أو يونيو، ولا يمكن أن تكون». واقترح تأجيل الانتخابات إلى نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، أو إجراءها مع الانتخابات المحلية المقررة في مارس (آذار) عام 2024.

ورأى أنه في حال حدوث خلاف بين الخيارين، «يمكن تحديد موعد تتفق عليه جميع الأطراف السياسية في البلاد». وفي إشارة إلى المادة 78 من الدستور، التي تمنع تأجيل الانتخابات إلا في حالة الحرب، وتشترط موافقة البرلمان على التأجيل، قال أرينتش إن «الدساتير ليست نصوصاً مقدسة، بل يمكن تغييرها. فجّر بيان أرينتش، غضباً في صفوف المعارضة التركية». وأعلن رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كليتشدار أوغلو، في مؤتمر صحافي في أنقرة الأربعاء، رفض تأجيل الانتخابات والتمسك بنص المادة 78 من الدستور، قائلاً: «إنهم (إردوغان وحزبه) يحاولون تأجيل الانتخابات. أنا على اتصال بشعبي، لا أحد يرغب في تأجيل الانتخابات، ستكون الانتخابات في موعدها. أقول لكم إذا أقدم المجلس الأعلى للانتخابات على مثل هذه الخطوة فستكون صفعة للديمقراطية… الانتخابات يجب أن تُجرى في 14 مايو، أو في موعدها الأصلي في يونيو على أبعد تقدير».

وهاجم كليتشدار أوغلو الرئيس إردوغان لتصريحاته المتكررة التي يصف فيها كارثة الزلزال في تركيا بأنها «كارثة العصر»، وهو المصطلح الذي تتبناه أيضاً وسائل الإعلام القريبة من الحكومة، قائلاً: «إن كارثة العصر الحقيقية هي النظام الرئاسي وحكم الرجل الواحد في تركيا».

وأضاف أن إردوغان «طالب المواطنين بمنحه عاماً آخر من أجل إعادة إعمار ما هدمه الزلزال»، قائلاً: «لقد منحك الشعب 20 عاماً، وكانت هذه هي النتيجة… لقد تجاهلت الدراسات العلمية والتحذيرات المتكررة من الزلزال ورحَّلت الأمر إلى القدر… لكن مع القدر هناك التدابير… لا تداري فشلك خلف الأقدار… سنزيل كل ذلك وسنسحب بلدنا من تحت أنقاض حكمك».

في السياق ذاته، أعلن حزب «الجيد» أيضاً رفضه تأجيل الانتخابات، مطالباً بإجرائها في 14 مايو أو 18 يونيو على أبعد تقدير. وجاء تعليق من «حزب العدالة والتنمية» الحاكم على لسان متحدثه الرسمي، عمر تشيليك، الذي كتب عبر «تويتر»: «في الوقت الحالي، نحن نكافح لإنقاذ حياتنا من الأنقاض… نكافح من أجل مداواة الجروح. نرى أنه من الخطأ جداً الحديث عن أي شيء يتعلق بالانتخابات، لا نجده صحيحاً بأي شكل من الأشكال. اليوم لدينا أجندة واحدة فقط. كيف يمكننا الاستمرار في الوقوف إلى جانب مواطنينا المشردين في الشوارع كيف يمكننا مواصلة معركتنا ضد هذه الكارثة دون مغادرة الميدان أبداً، بخلاف ذلك لا حديث عن انتخابات أو أي شيء آخر. نحن لا نتحدث. هذه الأنواع من الأحاديث لا علاقة لها بنا».

وبينما نفى تشيليك علاقة «حزب العدالة والتنمية» باقتراحات ببيان أرينتش، اعتبر رئيس شركة «ماك» لاستطلاعات الرأي أن أرينتش لا يمكن أن يتحدث عن الانتخابات الآن «وفي هذه الظروف من تلقاء نفسه، وأن هناك من يقف وراء إصداره هذا البيان».

ولا يخفي مسؤولون في الحزب الحاكم رغبتهم في تأجيل الانتخابات إلى نوفمبر المقبل، كما اقترح أرينتش، معتبرين أنه «سيكون التوقيت المعقول لإجراء الانتخابات»، لكن المعارضة ترفض وتتمسك بموعد الانتخابات، وتقول إن إردوغان «لن تكون له فرصة للترشح من الناحية الدستورية حال تأجيل الانتخابات».

* مبادرات للتضامن

وبعيداً عن جو الاستقطاب وحالة الشحن السياسي المتفاقمة رغم ظروف الكارثة، قررت أندية الدوري التركي الممتاز لكرة القدم، أن تتحمل العبء المالي عن ناديي «هاتاي سبور»، و«غازي عنتاب» بعد إعلان انسحابهما من النشاط الرياضي هذا العام بسبب كارثة الزلزال، وأعلن الناديان أنهما سيتحملان رواتب لاعبي الفريقين المنسحبين حال رغبتهم في الاستمرار في اللعب… كما طرحت الأندية التركية المنافسة الكروية جانباً، وقررت التضامن من أجل إغاثة منكوبي الزلزال المدمر.

وأعلنت أندية: «غلطة سراي»، «فنر بخشة»، «بيشكتاش» و«طرابزون سبور»، وهي من أندية المقدمة في الدوري التركي، عن مبادرة لتصميم قميص مشترك، وطرحه للبيع لصالح ضحايا الكارثة.

كما تواصل الأندية المشاركة في أعمال الإغاثة، وترسل عشرات الشاحنات بدعم من جماهيرها إلى الولايات المنكوبة. كما تجاوزت قيمة التبرعات التي جمعتها حملة أطلقها مدافع المنتخب التركي لكرة القدم ونادي «أتلانتا» الإيطالي، مريح دميرال، لصالح المتضررين من الزلزال حاجز الـ400 ألف دولار. وقال دميرال، عبر «تويتر»، الثلاثاء، إنه تم بيع قميصين للنجمين الفرنسي كريم بنزيما والإنجليزي هاري كين بالمزاد العلني، في إطار حملة التبرعات التي أطلقها.

التعليقات معطلة.