شوان زنكَنة
تعرّضَ الدينار العراقي إلى أزمة حادّة في الآونة الأخيرة، وتذبذب سعره بشكل غير معتاد، ويعود السبب في ذلك إلى جملة عوامل، متعلقة بأزمة احتلال العراق، وخرق الحصار المفروض على إيران، وتجميد المباحثات النووية بين إيران والغرب، وأزمة أوكرانيا، وارتفاع معدلات التضخم العالمية، واقتصار توفير الدولار في الأسواق العراقية على البنك المركزي العراقي، وعدم وجود نظام مالي ومصرفي لإدارة عمليات الاستيراد والتصدير.
ولإلقاء الضوء على هذه اللعبة، والعوامل المسبّبة لها، لا بدّ من العودة إلى قرارات مجلس الأمن، والدول المُحتَلَّة للعراق، التي فُرِضَتْ على العراق بعد احتلاله للكويت، ولغاية اليوم، ويمكن متابعة أهم هذه القرارات كالآتي:
1- قرار رقم 660 الذي صدر في 2 أغسطس/آب 1990م، وهو قرار خروج العراق من الكويت دون شروط، الذي طالب بخروج القوات العراقية من الكويت، أو إخراجها بالقوة والعودة إلى حدود ما قبل الغزو، وهو القرار الذي أدخل العراق تحت طائلة الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة.
2- قرار رقم 661 الذي صدر في 6 أغسطس/آب 1990م؛ والذي فُرِضَ بموجبه حظرٌ اقتصاديٌّ على العراق، فقد طالب فيه مجلس الأمن جميع الدول بالامتناع عن أية تبادلات تجارية مع العراق، باستثناء الإمدادات الطبية والغذائية.
3- قرار رقم 687 الذي صدر في 3 أبريل/نيسان 1991م؛ والذي طالب بترسيم الحدود بين العراق والكويت من خلال لجنة خاصة بذلك، كما طالب العراق بالكشف عن كافة أسلحة الدمار الشامل التي يملكها وقبول تدميرها، وحظرَ توريد أية أسلحة أو مواد لها صفة عسكرية للعراق. وشُكِّلَتْ بموجبه لجنةُ تفتيش خاصة بأسلحة العراق، وعُيِّنَتْ وحدةٌ لمراقبة الموقف بين البلدين.
4- قرار حظر الطيران من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن رقم 688 في 5 إبريل 1991م، الذي شَجَبَ فيه مجلسُ الأمن عمليات الاضطهاد ضد الشيعة والأكراد، والذي أدى إلى تشكيل منطقتي حظر طيران، في شمال العراق وجنوبه. وقد انتهى العمل بمنطقة حظر الطيران في العراق مع بداية غزو العراق عام 2003م.
5- قرار رقم 887 الذي صدر في 2 أكتوبر/تشرين الأول 1992م، والذي أدان فيه مجلس الأمن عدم التزام العراق بالقرارات الصادرة عنه، وأكّد قلقه من الوضع الصحي والغذائي للشعب العراقي، كما طالب فيه إعادة الممتلكات الكويتية التي استولى عليها أثناء الغزو.
6- قرار رقم 986 الذي صدر في 14 أبريل/نيسان 1995م، المتعلق ببرنامج “النفط مقابل الغذاء”.
7- قرار رقم 1284 الذي صدر في 17 ديسمبر/كانون الأول 1999م، والذي يشير إلى عدم التزام العراق بإعادة جميع الكويتيين، ورعايا البُلْدان الأخرى إلى أوطانهم، وكذلك السماح بحرية عمل لجنة التفتيش.
8- قرار رقم 1441 في نوفمبر 2002م، وهو قرار اتخذه مجلس الأمن لإعطاء العراق الفرصة الأخيرة للوفاء بالتزاماته في مجال نزع السلاح.
9- قرار 1483 الذي صدر في 22/5/2003، والذي ألغى الحصار، واستحدث الصندوق العراقي للتنمية، بهدف استلام إيرادات النفط في حساب وحيد بالبنك الفدرالي الأمريكي، واقتطاع حصة منها لدفع التعويضات، وتحويل الباقي إلى حساب وزارة المالية العراقية الذي يديره البنك المركزي العراقي، ومنه إلى حسابات أخرى تحددها وزارة المالية.
10- قرار 1956 الذي صدر في 15 كانون الأول عام 2010م، الذي أصبح ساريا منذ 30 حزيران 2011م، والقاضي بإنهاء نظام الصندوق العراقي للتنمية، والذي بموجبه تم إلغاء تقييد العراق باستلام إيرادات النفط في حساب وحيد لدى الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، ونص صراحة بأن العراق لم يعد مُقيّدا في التصرف بإيراداته النفطية، ولكنه في نفس الوقت أكّد، أيضا، على استمرار العراق بدفع النسب المقررة للتعويضات، وبالتالي استمر استلام إيرادات النفط بالكيفية السابقة، ولذلك أستمر إيداع الواردات النفطية في الفدرالي الأمريكي، وخرج العراق بذلك من طائلة الفصل السابع، القاضي باستخدام القوة في فض النزاع، ودخل تحت طائلة الفصل السادس القاضي باستخدام الوسائل السلمية والتفاهمات في حلِّ النزاع.
11- قرار رقم 2621 الذي صدر في 22 شباط 2022م، القاضي بتصفية حساب التعويضات وإغلاقه، وإعادة المتبقي للعراق وحل لجنة التعويضات نهاية عام 2022م، وبذلك تحرر العراق وموارده النفطية من هذا القيد. وبهذا لم يعد من الضروري استلام إيرادات النفط في حساب وحيد لا في الفدرالي الأمريكي، ولا في غيره من الحسابات، خاصة وأن العراق كان قد خرج من طائلة البند السابع.
12- تم التوقيع على اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق وأمريكا في نوفمبر عام 2008م، والتي دخلت حيز التنفيذ في يناير عام 2009م، بعد مصادقة مجلس النواب العراقي عليها.
هذه هي أهم القرارات التي رسمت مستقبل العراق والتي يمكن أن نستقي منها الآتي:
* كان هناك حصار مفروض على العراق، والذي تمَّ بموجبه إدخاله تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، بمعنى: إيقاف العراق عند حدّه بالقوة العسكرية، وفرض حصار اقتصادي عليه، والسيطرة على موارده.
* ثم تمّ فرض برنامج النفط مقابل الغذاء من قبل مجلس الأمن، الذي نظم مبيعات النفط، وسيطر على موارده، وأنفقها للغذاء والدواء، من خلال صندوق خاص.
* وبعد الاحتلال في 2003م، تمّ رفعُ الحصار، واستحداثُ الصندوق العراقي للتنمية، وفتحُ حساب له في البنك الفدرالي الأمريكي، بهدف استقطاع التعويضات، وتسليمِ الباقي لوزارة المالية العراقية. وقد يكون اختيار الفدرالي الأمريكي لفتح الحساب هو كونه مؤسسة المحتل، ليس إلا، لأن العراق كان بإمكانه فتح هذا الحساب في أي بنك عالمي آخر.
* دخلت اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق وأمريكا حيز التنفيذ في بداية عام 2009م، وتمّ اتخاذ القرار 1956 في 2010م من قبل مجلس الأمن والذي بموجبه تمت تصفية الصندوق العراقي للتنمية، وخرج العراق من سطوة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبذلك لم يَعُد العراق مُقيَّدا في التصرف بإيراداته النفطية، وأصبحت وزارة المالية العراقية قادرة، تماما، على استلام الموارد النفطية مباشرة، والتصرف فيها بلا قيود ولا شروط، إلا أن وزارة المالية أصرت على الاستمرار في إيداع الموارد النفطية في البنك الفدرالي الأمريكي، رغم صدور قرار مجلس الأمن أعلاه، وحلّ صندوق العراق للتنمية، ووجود اتفاقية الإطار الاستراتيجي، الذي يوحي بتوفر أجواء التفاهم، وحسن النية لدى العراق على دفع ما تبقى عليه من ديون وتعويضات. وسؤال وجيه هنا يفرض نفسه: لماذا استمرت وزارة المالية العراقية في إيداع الموارد النفطية في البنك الفدرالي الأمريكي، رغم قدرتها، الصريحة والواضحة، على التصرف المباشر فيها، وعدم الإيداع في الفدرالي الأمريكي؟
* سدّد العراق كل ما عليه من ديون وتعويضات، وتم غلق حسابها بموجب قرار مجلس الأمن المرقم 2621 الصادر في 22 شباط عام 2022م، وأكّد هذا القرار ما تمّ تثبيته سابقا عن خروج العراق من البند السابع، ودخوله في البند السادس من ميثاق الأمم المتحدة، بمعنى، إنهاء كافة أشكال الضغط والحصار والمطالبات على العراق، وحريته المطلقة في التصرف بموارد النفطية، ولكن، ورغم ذلك، استمرت وزارة المالية في إيداع هذه الموارد لدى البنك الفدرالي الأمريكي، وهو ما يدعو إلى الريبة والشكوك!
لم يتأثر الدينار بعد الاحتلال من أحداث الحصار الأممي، وبقيت السوق العراقية الداخلية هي الجهة المتحكمة فيه، والمحددة لحركته وسعره، فحافظ بذلك على تغييرات سعرية محدودة خلال هذه الفترة.. إلا أنه طرأت حالة مستجدَّة في أواخر العام الماضي، حينما منعت الخزانة الأمريكية حركة الحوالة الدولية لعدة مصارف عراقية، بحجة تهريب وغسيل الأموال، على الرغم من أنها سمحت بتلك العمليات لهذه المصارف منذ تأسيسها بعد الاحتلال.
ومع صدور هذا المنع من جهاز مكافحة الجرائم المالية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، انكمش الدينار العراقي بشكل ملحوظ وانخفض سعره تجاه الدولار الأمريكي، وأحدث هذا الانكماش ارباكا في السوق المحلية، خاصة وأن الجهاز المذكور قد فرض على البنك المركزي العراقي تشغيل منصة الكترونية في التحويلات الخارجية، واجبار المُحوِّلين على فتح الاعتماد، وتقديم الوثائق الرسمية التي تدعم صحة تحويلاتهم التجارية، وهو ما لم يتعود عليه المحوِّلين، ولم يمارسوه طيلة الفترات السابقة.
ويبدو أن الجهاز المذكور قد لاحظ أن معظم تحويلات البنك المركزي العراقي الخارجية هي أموال مهربة إلى إيران، وليست لأغراض تجارية حقيقية، وأن السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة تصب في خانة تضييق الخناق على النظام الإيراني، بسبب تملصها من محادثات فيينا النووية، وعدم رغبتها في إحيائها، وتعاونها العلني مع روسيا في أزمة أوكرانيا، لذلك قطع السبيل الرسمي لتهريب الدولار إلى إيران من خلال تحويلات البنك المركزي العراقي الخارجية.
ويأتي هذا المنع بالتزامن مع هبوط حادٍّ للتومان الإيراني، بسبب تشديد الحصار عليها، والاضطرابات الداخلية، الأمر الذي دفع البنك المركزي الإيراني إلى ضخّ كميات من الدولار الأمريكي إلى الأسواق لمنع انهيار التومان، فتولدت لديه حاجة ماسة إلى العملات الصعبة، وعلى رأسها الدولار الأمريكي، فاتجهت أنظار إيران إلى السوق العراقية، بشكل مكثف أكثر من ذي قبل، وبدأت بسحب معظم الحوالات الخارجية العراقية عبر البنك المركزي إليها، وهو ما دفع الخزانة الأمريكية إلى منع التحويل عبر البنك المركزي العراقي بالطريقة السابقة، وأجبرته على التحويل عبر المنصة الإلكترونية، وفق الوثائق الحقيقية والرسمية، فاضطرت إيران إلى التوجه نحو السوق المحلية العراقية لجمع ما يمكن جمعه من الدولارات، فاشتعلت بذلك أسعار الصرف، واهتزّت السوق المحلية.
تؤكد هذه الأحداث أن مشكلة الدولار في العراق ليست مشكلة داخلية، متعلقة بالسوق المحلية، وإنما هي مشكلة مستوردة ناتجة عن الصراع الأمريكي الإيراني، وأن معالجتها مرهونة بمنع تهريب العملة الصعبة إلى إيران.
لكن، ورغم أن الحكومة العراقية، ومؤسساتها المالية، تعلم جيدا أن مشكلة الدولار مستوردة، وليست محلية، إلا أنها سارعت إلى اتخاذ خطوات محلية، وشكلية، لا قيمة لها، لتوحي بأنها تسعى إلى معالجة المشكلة، وأنها جادة في ذلك، فتخفيض سعر الدولار الرسمي، واتخاذ التدابير البوليسية في الأسواق المالية، وتوفير الدولار بالسعر الرسمي لبعض الأصناف، كالسفر والعمرة والعلاج، ليس ألا ذر الرماد في العيون، ولن يعالج المشكلة، بل تمّ استغلاله للتهريب، من خلال سماسرة تقوم بجمع هذه الدولارات، بطرق معلومة، وارسالها إلى إيران.
الحكومة، بوسائلها الشكلية الواهية هذه، تنفخ في قربة مقطوعة، بل وتساهم بتهريب العملة الصعبة، بشكل أو بآخر، بينما طريقها الوحيد، والسليم، والسالك لحلّ هذه المشكلة هو قطع دابر التهريب، ومنع المهربين، المعروفين، حكوميا وشعبيا، من ممارسة هذه الجريمة الاقتصادية والاجتماعية الشنيعة، وسوف لن ينخفض الدولار في الأسواق العراقية، طالما بقي التهريب، وحاجة إيران إلى العملة الصعبة.
تُخطئُ الحكومة حينما تتأخر في معالجة مشكلة الدولار معالجة حقيقية، وتُخطئُ خطأً أكبر حينما تذر الرماد في العيون من خلال إجراءات خاطئة، واهية، لا قيمة لها.
فقد أخطأت حينما خفّضت سعر صرف الدولار، وأضرّت بالموازنة العامة للدولة، وستضطر إلى رفع سعره حينما ينخفض سعر برميل النفط إلى ما دون 60 دولارا، إذ سيتعدى سعر صرف الدولار حاجز 1700 دينار حينئذٍ.
وأخطأت حينما فتحت النوافذ بالسعر الرسمي لبعض المعاملات، كالسفر وغيره، مما تسبب بظهور نشاط للسمسرة، لم تكن موجودة سابقا، والذي يساهم في عمليات التهريب التي من المفروض أن تقطع دابرها.
وأخطأت الحكومة حينما اتجهت إلى اتخاذ الإجراءات البوليسية لمنع التداول المضرّ للدولار، والتي تسببت بدورها في رفع سعر صرف الدولار، ناهيك عن أن هذه الإجراءات تتنافى مع مبادئ الاقتصاد الحرّ.
وأخطأت الحكومة حينما توسلت إلى الخزانة الأمريكية، طالبة تأجيل العمل بالمنصة الإلكترونية، إذ كان يجب أن تعلم أن هذا الطلب مرفوض جملة وتفصيلا، في حين كان يجب عليها إلزام المستوردين ببيان وتقديم وثائقهم الحقيقية التي يُحوِّلون بموجبها عملاتهم الصعبة إلى الخارج، عبر المنصة الحالية، أو بالطرق الروتينية منذ أن بدأ البنك المركزي العراقي نشاط التحويلات الخارجية بعد الاحتلال.
وأخطأت الحكومة حينما استمرت في إيداع وارداتها النفطية في البنك الفدرالي الأمريكي، وأمكنته من التحكم فيها، ورفض طلبات حوالاتها، في الوقت الذي لم تكن فيه مضطرة إلى ذلك، فحام حولها الشكوك والريبة والظنون.
وأخطأت الحكومة حينما لم تقم بتأسيس نظام مصرفي سليم وفق المعايير العالمية.
والخلاصة.. سيبقى سعر صرف الدولار في العراق متذبذبا، طالما هناك حاجة لدى البنك المركزي الإيراني إلى الدولار لحماية التومان من الانهيار، والتي تتمّ تلبيتها من الدولارات المهربة من العراق، وبالتالي، فقد دفعت الأحداث الأخيرة، الاقتصادية منها والسياسية، إلى ربط الدينار العراقي بما يطرأ على التومان الإيراني، في ظلّ تشديد الحصار الأمريكي، وحكومة عراقية إيرانية للعظم.