منطاد كونفوشيوس

1

داود الفرحان

داود الفرحان كاتب عراقي

منذ أكثر من عشرين عاماً، زارتنا في شقتنا بالقاهرة، على غير موعد، سيدة صينية في العقد الثالث من عمرها. وهي تتحدث اللغة العربية بشكل نفهمه كما تفهم هي لغتنا العربية. وبلا تأخير فتحت حقيبة ظهر، وأخرجت منها عطوراً وبخوراً ومجسمات خشبية بسيطة، وربطات عنق نسائية، وأغطية رأس حريرية، وقلائد وأساور مقلدة، ولوحات زيتية لمناظر طبيعية، وحافظات مفاتيح، وساعات، وأقلام «باركر» مزيفة يمكن أن تحمل اسم المشتري، وصحوناً من خشب أشجار الغابات، وربطات عنق رجالية، وصور طيور وورود، وكتابات باللغتين الصينية والعربية تحمل اسم معهد كونفوشيوس، وهو أول فيلسوف صيني متخصص في المذاهب والتقاليد الصينية، والسلوك الاجتماعي والأخلاقي والتأثيرات العميقة في الفكر والحياة، بما يناسب التقاليد الصينية والكورية واليابانية والتايوانية والفيتنامية.
ويُلقَّب الراحل كونفوشيوس بنبي الصين، ويتبعه أكثر من مليار نسمة. لكن هذه الفلسفة انحسرت بشكل شبه تام بعد أن تحولت البلاد إلى الشيوعية، واتجهت إلى المستقبل بينما كانت الكونفوشية تدعو إلى فلسفة القرون الماضية والزمن الجميل، مثلما نشعر بالحنين إلى الماضي البعيد والقريب الممتلئ بالحكم والتقاليد والذكريات، من أزمان الأنبياء والخلفاء والعلماء والشعراء والفرسان.
كانت هذه السيدة -أو الآنسة- تحمل في حقيبتها كل هذا التاريخ والجغرافيا والروحانيات، وطلبت منا أن نشتري أي شيء؛ لأنها تعتمد في جولتها السياحية على بيع هذه التحف والمستلزمات المنزلية، وفلسفة كونفوشيوس. واشترينا فعلاً بعض الأمشاط والحرائر والتحف البسيطة الجميلة.
ذهب ذلك الحين، ونحن اليوم في حين آخر، تبيع لنا الصين ليس العلم فقط وإنما مناطيد الحروب! اجتازت الصين عصر الفضاء منذ عقود، ووصلت اليوم إلى عهد الرئيس الحكيم شي جينبينغ الذي يُهدي «السلام» إلى روسيا وأوكرانيا. لكن الوساطة الصينية أضاعت الطريق إلى موسكو وكييف، فأوكرانيا متمسكة باستعادة المقاطعات والأقاليم من روسيا، وهذه ترفض حتى الآن إعادة أي قطعة أرض. وكان الرئيس الأوكراني زيلينسكي قد حذر من «اندلاع حرب عالمية ثالثة» إذا دعمت الصين روسيا ضد أوكرانيا. وقال: «آمل أن تحافظ بكين على موقع عملي إذا لم تخاطر بالحرب العالمية الثالثة».
كان العرب يستخدمون كلمة «دهري» -وهي مشتقة من كلمة «الدهر»- في الإشارة إلى شخص بطيء في العمل. والآن يمكن إطلاق هذا التوصيف على كل من له علاقة بالحرب الروسية على أوكرانيا. لقد مَرَّ على الحرب عام كامل، ولا أحد يعرف متى تنتهي. فالزعيم الصيني يدفع بنا إلى انتظار شهر مايو (أيار) المقبل؛ حين تحتفل روسيا بانتصارها في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا. ومعنى هذا أن الرئيس الروسي بوتين «دهري» هو أيضاً، وليس في عجلة من أمره أو أمر الضحايا السابقين واللاحقين من الروس والأوكرانيين، حتى لو تحولت الحرب إلى لعبة كرة منضدة، أي كرٍ وفرٍ، كما يقال في قاموس الحروب.
والرئيس الأوكراني الذي كان «يتمسكن» في بداية الحرب، صار ينتقد خطة السلام الصينية، رافعاً لافتة: «لدينا خطة سلام خاصة بنا»! ولا يفسر لماذا لم يستخدم خطته للسلام حتى الآن، تاركاً شعبه لاجئاً في دول الجوار وأنفاق القطارات منذ عام كامل.
حتى الآن «الوساطة» الصينية بين روسيا وأوكرانيا مجرد «موَّال»، بينما الوساطة الصينية أيضاً لمؤتمر السلام في القرن الأفريقي بدأت تأخذ مسارها، بمشاركة السودان والصومال وجيبوتي وكينيا وأوغندا. ولا ندري لماذا غابت مصر عن مؤتمر السلام الأول بين هذه الدول؛ خصوصاً أن نهر النيل يأخذ جانباً من اهتمامات صالونات هذا المؤتمر.
لقد وجدت الفلسفة ميداناً لها في الحرب الأوكرانية، فأحد الباحثين يرى أنه «كلما اشتد لهيب الميدان الأوكراني لجأ السياسيون الغربيون والصينيون لتجذير أصل الصراع، بما يعيده إلى مهده الفكري». وبمعنى آخر: في ميدان أوكرانيا.
بين الحكمة والرصاصة مسافة فكرة يطلقها الفيلسوف من «كهفه» حتى تستقر في عقل السياسي، فيترجمها وفق رصيد قوته العسكرية والاقتصادية، فإذا نبعت حكمة الفيلسوف من إطار إنساني، دار عقل السياسي، وهذا ليس خطيئة في عالم القيم الأخلاقية. وإذا شطَّت في درك الأطماع والتغول بلغ بها الصراخ السياسي أقصى حدود الاحتراب.
ولتفسير «حديقة» الفلسفة، نضرب مثلاً بتصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ليتماشى مع شعارات الفلسفة الغربية، وهو يقول: «يمكن لروسيا أن تطفئ الأضواء في جميع أنحاء أوكرانيا بالطائرات المُسيَّرة؛ لكنها لا تستطيع إطفاء الروح الأوكرانية»! والسياسي نفسه يناقض نفسه وبشكل عكسي على أحداث نابلس في فلسطين، وهو يقول: «لدينا مخاوف جدية إزاء العنف الذي نشهده في الضفة الغربية»! فالانتهازية هنا فضيحة: في أوكرانيا روح أوكرانية تقاوم؛ لكننا في فلسطين مجرد أحداث عنف تبعث على الخوف! وبتوضيح أكثر: في العراق: «لديه أسلحة دمار شامل»، أما في إسرائيل «فلديها قنابل نووية للمهرجانات الفنية»!
الآن نعود إلى منطاد كونفوشيوس. حين تجوب الفضاءات الكونية صواريخ وأقمار تجسس ومُسيَّرات قاتلة، فهذه حضارة متطورة. أما المنطاد الصيني الوحيد الخالي من أي سلاح، فهو يشكل خطراً على العالم العنصري المتحضر. وقد أسقطته الدفاعات الأميركية مثل اصطياد أي طائر، ونتفت ريشه. ما هذه الازدواجية؟ وما هذا الحَوَل؟ ووصف وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، رد الفعل الأميركي على اكتشاف منطاد صيني غير مسلح في سماء الولايات المتحدة، بأنه كان خطأ كبيراً. وأشار الوزير إلى أن العالم شاهد المنطاد يتحرك ببطء عبر ولايات مونتانا وكانساس وساوث كارولاينا، ولم يحدث أي شيء.
هذا المنطاد رأيت مثله قبل سنوات، ولكن أصغر حجماً في حقيبة السيدة الصينية التي زارتنا في شقتنا، وعرضت مناطيد صغيرة تطير في احتفالات الأعراس وأعياد الميلاد، ولم نخشَ أن ينفجر في وجوهنا.
على أي حال، أسقطت طائرة أميركية المنطاد فوق مياه المحيط الأطلسي، على الساحل الشرقي للولايات المتحدة. ونفت الصين الاتهامات الأميركية، وقالت إن المنطاد مدني، ويُستخدم بشكل رئيسي للرصد الجوي: «وخرج عن مساره بفعل رياح غير متوقعة».
الولايات المتحدة التي سبق أن رصدت هذه الظاهرة من قبل ولم تكترث، واعتبرتها «لعبة رياح» ليست عدائية، هاجت وماجت هذه المرة بفعل التضامن الصيني– الروسي الآيديولوجي طوال الحقبة الشيوعية. وهو تفسير «خارج الخدمة»، فالشيوعية الصينية لم تعد ماركسية– لينينية بالمعنى المادي أو الفلسفي، وهي شيوعية أقرب ما تكون إلى المثالية الكونفوشية في تعاملاتها وجدلياتها ومصالحها الاستراتيجية. فالصين تؤرقها ورقة تايوان، وهي لا تريد حرقها بمنطاد هوائي أقرب ما يكون إلى تجارة تلك السيدة الصينية التي زارتنا ذات يوم، لتبيع لنا ألعاباً وعطوراً وتحفاً، بعضها من زمن الزعيم ماو تسي تونغ.

التعليقات معطلة.