حكايات لا تنتهي تأتي بأنطيغونا من الأساطير العتيقة إلى مجاهل بدايات القرن العشرين
ألفريد دوبلن (1878 – 1957) (غيتي)
ذهب الشاب الإنجليزي إدوارد ويلسون مجنداً في الحرب العالمية الثانية، لكنه بدلاً من أن يقتل خلالها، كما حدث لأعداد كبيرة من مواطنيه ومجايليه، فقد ساقه لا أكثر. مثل هذا الأمر يحدث في الحروب، وكثر، طبعاً، يفضلون أن يفقدوا طرفاً من أطرافهم على أن يقتلوا. فتلك هي الطبيعة البشرية: طبيعة التمسك بالحياة مهما كان الثمن. لهذا، حين عاد ويلسون من الجبهة إلى المستشفى مباشرةً، وبات من المؤكد أنه لم يعد في حال تسمح له بالتوجه إلى الجبهة مرة أخرى، شكر كثر من أهله ومعارفه ربهم، لكن ويلسون لم يكن من رأيهم، ومن ثم كان من الطبيعي له أن يبحث عن خلاصه من طريق الفن والحكايات التي تبدو كما لو كانت تسير على دروب “ألف ليلة وليلة”، هذا ما يحدث في واحدة من أشهر روايات الألماني ألفريد دوبلن، “هاملت أو الليل الطويل قد انجلى”. أما في روايته الأشهر “برلين ألكسندر بلاتز” فإن لدينا بدلاً من ويلسون، الألماني فرانز بيبركامف الذي لا يعود إلى مدينته برلين من الحرب، بل من السجن، حيث أودع لقتل زوجته. وها هو الآن وقد بات “حراً” يبحث هو الآخر عن خلاص ما فلا يجده إلا في حثالة العاصمة الألمانية وجرائمها وقاذوراتها، ولكن روزا المعتقلة إثر ثورة 1918 الألمانية لمشاركتها في الثورة فإنها في السجن بعد أن تم إعدام خطيبها كارل، تبحث عن خلاص بدورها فلا تجده إلا في اللجوء إلى مخيلتها، حيث تناجي خطيبها الراحل كارل، وتقيم لنفسها عرساً صاخباً معه – مع شبحه بالأحرى – في زنزانتها.
تبريرات لاعتناق ما…
هنا قد تكون روزا في حقيقتها روزا لوكسمبورغ زعيمة ثورة سبارتاكوس “السوفياتية” في ألمانيا التي اندلعت وانتكست عبر مجازر واغتيالات في عام 1918، وستقود هزيمتها إلى ازدهار النازيين ووصولهم إلى السلطة، بخاصة بعد إعدام زعيميها روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت، اللذين يستخدمهما الكاتب ألفريد دوبلن كناية عن بطلة الجزء الرابع من روايته الأقل شهرة من “برلين ألكسندر بلاتز” وأقل قوة من “هاملت: الليل الطويل قد انجلى”، “نوفمبر 1918: ثورة ألمانية” التي تعتبر رواية ثورة سبارتاكوس وخيبة تلك الثورة، لكن هذه الرواية بقدر ما هي رواية تاريخية مبنية، ولو جزئياً، على أحداث حقيقية فتم تفتيتها إلى حكايات لا يربط بينها سوى تلك الثورة المجهضة، من ناحية، وذات الكاتب نفسه من ناحية ثانية هو الذي يبدو في هذه الرواية التي هي رباعية على أية حال، ذاته التي لم تعد الآن تبحث عن خلاص، بل تبرر عثوره عليه، وتحديداً من خلال تبرير تخليه عن دين آبائه اليهودي، وحتى عن علمانيته ويساريته السابقتين واعتناق الكاثوليكية في بعد بابوي محدد. وكأن دوبلن يقول إن اعتناقه الكاثوليكية وتخليه عن اليهودية كان لأسباب عقائدية، وليس عن انتهازية كما فعل كثر تحت وطأة الرعب من النازيين ومسايرة لهم. وليس أدل على ذلك من تخلي دوبلن عن اليهودية لاعتناق دين البابوية مع اعتناق ابنه أيضاً هذا الدين عن اقتناع كلي، وقد اختارا التخلي معاً عن اليهودية بعد سنوات من مبارحتهما ألمانيا النازية هرباً من اضطهاد الهتلريين، اليهود، وفي وقت كان يعيش فيه وابنه، في جنوب كاليفورنيا. أياً يكن قد يبدو من المفيد هنا أن نذكر أن ألفريد دوبلن كان دخل الولايات المتحدة أصلاً، ليس لاجئاً سياسياً، بل تبعاً لعقد وقعه معه شركة مترو غولدوين ماير بوصفه كاتب سيناريوهات سينمائية.
غلاف الرباعية (موقع أمازون)
“صبيانية” الثوار وإن بتعاطف
“نوفمبر 1918: ثورة ألمانية” هي على أي حال مجموعة روايات لدوبلن تتحدث معاً عن الثورة السبارتاكية الألمانية التي اندلعت وهزمت في الفترة من 1918 إلى 1919. وتحمل المجلدات الأربعة على التوالي العناوين التالية: “مواطنون وجنود” و”شعب مخدوع” و”عودة قوات خط المواجهة”، وأخيراً “كارل وروزا”. والرواية في مجلداتها الأربعة التي صدرت خلال الفترة التي كان فيها دوبلن يعيش في المنفى الفرنسي، ثم الأميركي قبل العودة إلى أوروبا، حيث عاش ردحاً في فرنسا مجدداً، ومنها إلى ألمانيا، في عودة على غير حماس بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر ونازييه.
ولقد استقبلت أجزاء “نوفمبر 1918” المتتالية استقبالاً نقدياً حافلاً، لا سيما من قبل كتاب كبار من طينة برتولت بريخت، ولكن طبعاً ليس من قبل المجتمع اليساري الألماني الذي حتى وإن كانت الرواية تعبر عن حنين إلى القوى التي أطلقت تلك الثورة فإنها أغضبتهم، ذلك أن الرواية، وبخاصة في جزئها الرابع الذي يبقى أشهر وأجمل أجزائها، تحمل الاندفاع الثوري “الصبياني” للثوار جزءاً كبيراً من مسؤولية الهزيمة، ولا سيما وقد اعتبر الكاتب – الذي كان حماسه المبدئي للثورة منذ اندلاعها كبيراً – أن القيادت لم تتمكن، وهي تتخذ قراراتها “الرومانطيقية” بالنزول إلى الشارع ومواجهة قوات الأمن الخارجة بكل أحقادها وغضبها مهزومة في الحرب على يد الحلفاء، لم تتمكن من فهم الظروف السياسية العالمية، ولا سيما رغبات الحلفاء في “التعامل” مع نظام مهزوم يخضع لشروط ما بعد الحرب ويساير مطامع الحلفاء، على التعامل مع نظام ثوري منتفض سيتعامل مع هؤلاء الحلفاء تعامل الند للند. صحيح أن هذا العمل الأدبي غلبت عليه السياسة الواقفة أصلاً كما هو مفترض خارج الاهتمامات العميقة لألفريد دوبلن، لكنه من ناحية أكثر حميمية عبر عن كثير مما كان يعتمل داخل ذهن دوبلن، ولا سيما تأثره بالهجمات التي تعرض لها من جانب القوى اليهودية والصهيونية الألمانية والأوروبية التي تجاهلت ذاتية اختياراته الدينية كما من جانب اليسار والقوى المحافظة، ولكن في المقابل كانت هناك إشادة كثر من المثقفين الأكثر وعياً بعمل دوبلن هذا وفهمه على ضوء أعماله السابقة من ناحية، ومن ناحية ثانية على ضوء رغبته التي شعرها اضطرارية لتبرير ذاته أمام كثرة المتهجمين عليه من الذين تعاملوا معه كسياسي على خطأ، وليس كأي مبدع لا ينبغي أن يخطئ. ومهما يكن، لم يخل الأمر من نقاد كبار من طينة الناقد ذي النفوذ غابرييل ساندر الذي وصف الرباعية بأنها تمثل تتويجاً لعمل دوبلن في نوع الرواية التاريخية.
الوصول إلى الغاية المثلى
لكن ألفريد دوبلن (1878 – 1957)، لم يكن على أي حال مستاءً من هذا التوصيف هو الذي ولد في برلين في أحضان أسرة مثقفة، ودرس التحليل النفسي والطب في جامعة برلين، لكنه آثر بسرعة أن يتجه إلى الكتابة، معززاً اياها بموقف سياسي اشتراكي ديمقراطي، هو الذي سيجعل لاحقاً من نص الرباعية التي دائماً ما داعبته رغبته في أن يكتبها عن روزا لوكسمبورغ وثورتها و”إعدامها” كما إعدام شريكها في زعامة السبارتكيين، واحدة من أبرز أعماله. ومع هذا تبقى روايته “برلين ألكسندر بلاتز” (التي سيحولها المخرج السينمائي الألماني بدوره راينر فرنر فاسبندر بعد نصف قرن من صدورها، أي في بداية ثمانينيات القرن العشرين إلى مسلسل تلفزيوني لافت)، تبقى أهم عمل له، لكنها، طبعاً، لم تكن عمله الوحيد، إذ إنه لم يتوقف عن الكتابة، وفي شكل متواصل أوصل عدد رواياته الأساسية إلى 17 رواية، جعل هذا العمل ينطبع في معظمه بانتقائية مدهشة كما بتنوع يصعب فهمه في أماكن أحداثها و”أممية” شخصياتها، وعلى الأقل حتى صدور روايته الأجمل والأكثر ذاتية “هاملت: الليل الطويل قد انجلى” التي يبدو أنه لم يعد بعدها راغباً في مزيد من الكلام الأدبي، إذ أحس – كما قد يحس أي قارئ لهذا العمل – أنه أوصل الأدب فيه إلى لحظته القصوى وإلى غايته الإنسانية المثلى.