هل كان العثور عليها ونشرها خيانة للكاتب أو خدمة لأدب متنوع باتت تقديماً له؟
روبرت لويس ستيفنسون (1850 – 1894) (غيتي)
في عام 1877، وكان بعد في السابعة والعشرين من عمره، كتب روبرت لويس ستيفنسون في رسالة بعث إلى صديقته فاني سيتويل يقول بلهجة انتصار فخمة “اقرعي الطبول وانفخي في المزامير. لقد قرعت بدوري طبولي ونفخت في مزاميري على طريقتي: وكانت النتيجة رواية كتبتها وعنونتها (جذع الشعر، أو الكومنولث المثالي)”! والحال أن ستيفنسون لم يكن قد صار حين كتب تلك الرسالة، الكاتب الشهير الذي سيكتب خلال أقل من عقد ونصف العقد بعد ذلك بعض أروع روايات المغامرات والغرابة وبعض أجمل كتب الرحلات ونحو أربعة مجلدات مستوحاة من “ألف ليلة وليلة” باسم “ليال عربية جديدة”. ولم يكن العالم قد تعرف بعد إلى ما يختمر في ذهنه من نصوص ستحمل عناوين راسخة مثل “دكتور جيكل ومستر هايد” و”جزيرة الكنز” و”اختطاف”، وعدداً لا يحصى من المجموعات القصصية وكتب الرحلات والأشعار… إلخ، بل إن العالم نفسه حين سيكون قد تعرف إلى تلك الروايات والقصص والنصوص سيكون قد نسي تماماً تلك الرواية الأولى التي طبل وزمر لها ذلك الكاتب الشاب الذي سيرحل عن عالمنا على أية حال شاباً في الرابعة والأربعين. وحدها فاني سيتويل ستبقى حاملة تلك السطور الحماسية في ذاكرتها، وإن كانت قد تلهت عنها لزمن اقترنت فيه بذلك الشاب الذي كانت تهواه، لكنها سرعان ما انصرفت إلى العناية به وبـ”النزلة الصدرية” المستديمة التي ستقضي عليه في النهاية، ولكن من دون أن يكمل روايته الأولى ومن دون أن يعرف قراؤه أنه كتب بدايات الرواية ثم نحاها جانباً.
ليس الكاتب الذي تعتقدون
هذه الرواية نفسها سوف يعاد اكتشافها في عام 2014 من قبل الناقد روجر سويرنغن فينشرها في وقت كان فيه الكاتب الفرنسي ميشال لوبري المتخصص بأدب الرحلات وصاحب كتابات عديدة عن ستيفنسون، يشرف على ترجمتها إلى الفرنسية ويعطيها عنواناً أكثر معقولية هو “حقيبة من جلد، أو المجتمع المثالي”، موحياً بأنه هو الذي اكتشفها نافضاً عنها غبار السنين معيداً إلى بدايات ستيفنسون رونقاً جديداً، بل حتى، وبحسب تعبيره نفسه، ساحباً صاحب روايات المغامرات الشهيرة من تلك المكانة التي أسبغها عليه النقاد والمؤرخون دائماً بوصفه كاتب روايات ونصوص تليق بصغار القراء تفتنهم. “أبداً، قال لوبريه، ليس ستيفنسون وحسب، الكاتب الذي تعتقدون”. صحيح أن كثراً، وبالاستناد إلى ما ذكره ستيفنسون في رسالته المبكرة إلى خطيبته كانوا يعلمون بوجود تلك الرواية، لكنهم يعتقدون أنها كانت مجرد مشروع قد أجهض كعدد لا بأس به من مشروعات كتابية شرع ستيفنسون الشاب في كتابتها ثم تراجع. كانوا يعتقدون أن الأمر لم يعد كونه بضع صفحات أراد بذكرها أن يبهر خطيبته “لكني أنا، يتابع ليبري، كنت أكثر عناداً وانتهى بي الأمر إلى العثور في (كاتالوغ) مزاد للمخطوطات يعود إلى عام 1915، على ما يؤكد أننا هنا في صدد نحو 140 صفحة أنجزها الكاتب من تلك الرواية الأولى”. وهكذا تمكن ليبري في نهاية الأمر من الحصول على نسخة من الرواية الناقصة، فنشرها في الفرنسية بعد أن استكمل أحداثها وألحقها بعدد كبير من التعليقات والملاحظات والهوامش التي جعلتها، وبحسب خبراء أدب ستيفنسون، تنتمي حقاً إلى السياق المعهود، بل المميز فكرياً، في أدب هذا الأخير، بل باتت جديرة بأن تكون نوعاً من المدخل إلى هذا الأدب في أبعاده المتشعبة: أدب الرحلات وأدب المغامرات الغرائبية والنظرة المسيسة إلى العالم وأحواله.
ستيفنسون في جمع محلي في جزر ساموا حيث “الحياة البوهيمية الحقيقية” (موقع الكاتب)
كومنولث أم مجتمع مثالي؟
ولعل الخدمة الأفضل التي يمكن إسداؤها الآن لأدب ستيفنسون وفكره، وربما لفكره أكثر مما لأدبه، من خلال الحديث عن هذه الرواية التي باتت مكتملة إلى حد ما، هي الإشارة إلى صوابية عنوانها الفرنسي الذي ينتزعها من سكوتلنديتها البريطانية المتعلقة بـ”الكومنولث المثالي” لتفضيل تعبير “المجتمع المثالي” كعنوان ثانوي في العنوان الذي حملته الرواية في ترجمتها الفرنسية “حقيبة جلدية”. ففي نهاية الأمر لسنا هنا أمام رواية مغامرات ولا أمام نص فكري يتعلق بما يمكن اعتباره نوعاً من “مجتمع مثالي” يدعو الكاتب الشاب إليه، بل إن النص كما خلفه ستيفنسون إنما هو محصلة السنوات التي أمضاها أواسط الربع الأخير من القرن التاسع عشر، متنقلاً بين باريس وإدنبره حيث كانت تسود حياة بوهيمية، مكنه اختلاطه فيها من أن يهرب من براثن تلك الحياة العائلية التي يخبرنا في واحد من أول فصول الرواية أنها كادت تدمره – أو تدمر في الأقل، الراوي الذي لن يكون على أية حال، سوى الأنا/ الآخر لستيفنسون نفسه. ومهما يكن فإن الرواية إذ ترسم لنا تلك الخلفية، لا يفوتها أن تخبرنا بأن من يروي لنا ذلك التجوال المكوكي بين المدينة الاسكتلندية وعاصمة النور في فرنسا، إنما كان شاباً لا يحمل أية أوهام، ولا سيما من خلال خلاص يأتيه في الانتماء إلى طليعة أدبية كانت ملء السمع والبصر في ذلك الحين في أوروبا كلها وتنتج حداثة مدهشة. غير أن تلك الحداثة الطليعية لم تبد شديدة الإغراء لبطلنا.
مرض الأدب الطفولي
فهذا البطل كان قد أدرك مبكراً أن “النزعة الطليعية الحداثوية إنما هي في حقيقتها مرض الأدب الطفولي”، مؤكداً أن “المرء حين يكون شاباً ولا يكون لديه بعد ما يتعين عليه قوله، لا يسعه إلا أن يركز في ما يسعى إلى إنتاجه من إبداع مبكر، على الألعاب الشكلانية وعلى إثارة إعجاب أصدقائه المقربين”. ومن هنا لا بد “أن يحل يوم ينبغي فيه على هذا المرء نفسه أن يتخلى عن تلك القوقعة وعن تلك الألاعيب ليبدع حقاً”. ولعل اللجوء إلى الحياة البوهيمية يكون الترياق لولوج المرحلة الانتقالية التي تنقذ المبدع من بداياته المصطنعة. وتلك المرحلة إنما تكون النتيجة الحتمية، إن كان المعني بها موهوباً حقاً، لعيش الحياة في أعمق أبعادها أي انطلاقاً من حقيقة بوهيمية تجعل المرء حقيقياً لا مصطنعاً. ولئن كان ستيفنسون في العدد الأكبر من الصفحات التي أنجزها حقاً، قد حرص على أن يصف تلك الحياة البوهيمية وصفه لتلك الحيوات التي سيعيشها لاحقاً متنقلاً بين أغرب المناطق وأكثرها امتلاءً بالأصالة الحية “الحقيقية” التي لم تزيفها “الحداثة الطليعية بعد”، فربما يفسر لنا هذا الأمر السبب الذي دفعه إلى التخلي عن استكمال الرواية منسجماً في ذلك مع نفسه على الأرجح.
فالحال أن الكاتب، بعد أن بهر خطيبته، وتصدى لما اعتبره “أكاذيب الحداثويين” من خلال اعتباره أن ما هو مثالي لا يمكن الاكتفاء بتقصيه في باريس أو إدنبره مهما كانت نوايا بوهيميي تلك الحاضرتين سليمة وصادقة. ومن هنا كان من المنطقي له، وقد قرر أن يدور في مناطق “الأصالة” وحياتها الحقيقية، أن يضع ذلك النص جانباً ثم يتخلى عنه تماماً ريثما تكتمل رؤيته للعالم البوهيمي الحقيقي لينتج أدباً يعبر عنه. ونفترض أن توغله في ذلك العالم الحقيقي واستيحاءه شخصياته ومغامراته منه ومن أصالته أوصله إلى تناسي روايته الأولى تناسياً تاماً – معتبراً إياها على الأرجح منتمية في نواياها كما في صياغتها إلى ذلك الأدب الحداثوي الطليعي نفسه الذي يهاجمه في ثناياها. ومن هنا نجد تبريرات تكفينا لتأكيد ما ذكرناه في تقديمنا هذا الكلام من أن تلك الرواية، التي قد نحار في نهاية الأمر بين أن نعتبرها رواية أو نوعاً من الاعترافات الذاتية أو طريقة مواربة للغوص في أدب الرحلات على غرار ما سيفعل إرنست همنغواي لاحقاً، في الأقل في كتابه “باريس عيد دائم”، أو حتى محاولة جيدة في… النقد الأدبي. ومن هنا فضلنا الكلام عنها بوصفها مدخلاً مبتكراً لما أنتجه روبرت لويس ستيفنسون (1850 – 1894) طوال السنوات المتبقية بعد عام 1877 – عام تخليه عن استكمال هذه “الرواية” التي تحدثنا عنها هنا – من نصوص تمهد لكل الأنواع الإبداعية التي سوف يخوضها.