محمد خالد اليحيى كاتب وباحث سعودي، زميل في برنامج «مبادرة الشرق الأوسط» في مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة هارفرد، وزميل أول في مركز السلام والأمن في الشرق الأوسط التابع لمعهد هادسون.مدير التحرير السابق للنسخة الإنجليزية من موقع العربية.نت.
الوساطة الدبلوماسية الصينية تنجح في التقريب بين إيران والمملكة العربية السعودية… ما تداعيات ذلك على الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط؟
دأب المسؤولون الأميركيون، لما يربو على عقد من الزمان، على الترويج لما أطلقوا عليه تسمية «التحول» الاستراتيجي بعيداً عن الشرق الأوسط، من أجل مواجهة تهديد الصين، التي ما فتئ نجمها يصعد في الآفاق يوماً تلو آخر. وفي تلك الأثناء، اتخذت بكين من الشرق الأوسط ساحةً كبرى لصراع القوى مع الولايات المتحدة. بلغ سيل التنافر الاستراتيجي بين نهجي القوتين العظميين في المنطقة الزبى، مع الإعلان المفاجئ عن نجاح بكين في التوسط لرأب صدع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران. وعليه، تتواصل لعبة سياسات القوة الإقليمية، حتى إن أبت أميركا المشاركة فيها.
أما أبرز مفارقات هذه الصفقة التي توسطت فيها الصين، فتتمثل في أنَّ الهدف الاستراتيجي لتحقيق التقارب السعودي الإيراني قد وُلد في واشنطن وليس في بكين، وذلك حسبما أكده مسؤول في مجلس الأمن القومي الأميركي، لم يرغب في الإفصاح عن هويته، في معرض تعليقه على الصفقة لقناة «العربية». إن تحقيق أحد الأهداف الرئيسية لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على يد الصين لهو دلالة على توافق الأهداف الإقليمية الصينية إلى حد كبير مع نظيرتها الأميركية؛ وعلى الرغم من ذلك، فقد تمخض عن هذا التقارب زيادة في نفوذ الصين، بينما تسعى أميركا لطيّ صفحات وجودها في المنطقة.
ومن ثم، فإن بيت القصيد من الصفقة السعودية الإيرانية المفاجئة لا يرتبط بتلطيف أجواء العلاقات الثنائية بين البلدين، بقدر ما يرتبط بطموح الصين لملء فراغ السلطة، الذي خلّفه رحيل أميركا. وفي حين أدت الجهود الأميركية لخطب ود إيران من خلال ضمان برنامجها النووي طيلة عقد من الزمان إلى إضعاف نفوذ أميركا في كل من طهران والرياض، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإيران، وهو ما يُعزى جزئياً إلى انتهاكها العقوبات الأميركية. وفي الوقت نفسه، أقامت الصين كذلك علاقات اقتصادية مهمة مع المملكة العربية السعودية. وفي الشرق الأوسط الجديد، من الواضح أن الصين هي الوحيدة التي تملك من الإرادة والنفوذ ما تضمن به عقد صفقة بين أقوى منافسين في المنطقة.
دخلت المملكة العربية السعودية في شراكة اقتصادية وسياسية وعسكرية مع الولايات المتحدة طيلة الحرب الباردة. تمخضت العلاقة الاستراتيجية بين البلدين عن هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بعد أن زاد السعوديون إنتاج النفط، ما أدى إلى انخفاض أسعاره إلى مستويات لم يقوَ معها السوفيات على مواصلة المجهود الحربي. وعلى الصعيد العسكري، قاتل جهاديون سعوديون في ساحة المعركة إلى جانب الأفغان المدعومين من الولايات المتحدة ضد الحكومة المدعومة من السوفيات في كابل. كما أنَّ المملكة العربية السعودية كانت ضد النفوذ السوفياتي في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ومع ذلك، وفي خضم الحرب الباردة الحالية، أُضطرت المملكة العربية السعودية على التعامل مع الصين الشيوعية من أجل تأمين وضعها الإقليمي. وعلى الرغم من هذا التحالف، فقد يكون أيضاً شيئاً لا بد منه؛ ففي حين تُروج الولايات المتحدة لفكرة النأي بنفسها عن المنطقة، لا يجد حلفاء الولايات المتحدة مناصاً من التعامل مع الصين؛ لملء فراغ السلطة المزعزع للاستقرار الذي خلّفه رحيل أميركا، وهو خيار يلقى على ما يبدو تحفيزاً من كبار مسؤولي إدارة بايدن، بدءاً بمستشار الأمن القومي جيك سوليفان فمن دونه.
لطالما سعت بكين سعياً حثيثاً للاضطلاع بدورها الجديد كوسيط إقليمي. بدأت الأنباء حول الصفقة السعودية الإيرانية تتردد في أعقاب زيارة الدولة التي قام بها الزعيم الصيني شي جينبينغ إلى المملكة في (فبراير (شباط) الماضي. وضع شي نصب عينيه خلال تلك الزيارة إطلاق عملية تأذن للصين بأن تحلَّ محل الولايات المتحدة كالشريك الأمني والتجاري الرئيسي للرياض. وقد نجح الصينيون من خلال التوسط لتحقيق التقارب بين السعودية وإيران في التدليل على جدواهم في هذا الدور الجديد. وبينما تُحبذ الولايات المتحدة على ما يبدو الابتعاد عن المنطقة، للتركيز كما هو واضح على التهديد الصيني، يُدير الصينيون دفتهم صوبَ المنطقة من أجل التنافس مع الولايات المتحدة من جهة، وحماية مصالحهم الخاصة من جهة أخرى.
وبذلك، تعرض بكين على الرياض صفقة بسيطة: بمقدور المملكة الاستفادة كما شاءت من التعاون مع الصين في مجالات الدفاع والطيران وصناعة السيارات والصحة والتكنولوجيا، وفوق كل ذلك بيع النفط السعودي، واختيار أي معدات عسكرية مرغوبة من كتالوغ الصناعة الصينية، كل ما سبق مقابل مساعدتنا على استقرار أسواق الطاقة العالمية. باختصار، يعرض الصينيون على السعوديين صفقة اقتبست صياغتها على ما يبدو من كتيب الصفقات الأميركية السعودية التي حققت الاستقرار في الشرق الأوسط طيلة 70 عاماً.
لقد أضحت الصين في الوقت الراهن منافساً عتيداً للولايات المتحدة على الساحة الإقليمية، لا سيما في عالم التجارة؛ فقد تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للصين تقريباً في العقد الماضي، إلى أكثر من 28 تريليون دولار، ما يجعلها واحدة من أكبر الأسواق وأكثرها نمواً وجاذبية في العالم. وقد صاحب نمو الأسواق المحلية للصين نمو مماثل في تجارتها مع الخليج. ففي عام 2021، بلغ إجمالي قيمة واردات الصين من المملكة العربية السعودية 57 مليار دولار. وبينما تمد المملكة الصين اليوم بما نسبته 18% من احتياجاتها من النفط الخام، لا يزال هناك مجال هائل لزيادة هذه النسبة. وفي المقابل، وصلت الصادرات الصينية إلى المملكة العربية السعودية في عام 2021 إلى 30.3 مليار دولار – وهو رقم يمكن أن يتضاعف بسهولة مع تزايد الطلب على البتروكيماويات والمعدات الصناعية والعسكرية، التي كانت المملكة تحصل عليها فيما مضى من موردين أميركيين.
وفي الوقت نفسه، تُمثل العلاقات التجارية بين الصين وإيران أهمية قصوى لاقتصاد طهران؛ فالصين تعد أكبر شريك تجاري لإيران، وأكبر مصدر للعملات الأجنبية لطهران، وبالتالي تمثل التجارة الصينية أهمية وجودية للبلاد. إنَّ الدورَ الهائل الذي رسخت الصين جذوره في الاقتصاد الإيراني يمنح بكين بالتبعية نفوذاً كبيراً على بلد لطالما عرَّض الأمن الإقليمي للخطر، بما في ذلك رعايته لهجمات صاروخية واسعة النطاق على المطارات السعودية وحقول النفط انطلاقاً من اليمن.
نظرياً، يمتلك الصينيون وحدهم ما يكفي من الأدوات والنفوذ لرعاية عملية أوسع وأطول أمداً لخفض التصعيد، يمكن أن تؤسس لتسوية مؤقتة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وفي حين قد يبدو ذلك بعيد المنال من الناحية العملية، إلا أنه ليس من الحكمة حرمان الصينيين من الإدلاء بدلوهم فيما يخص المنطقة. ولا مجال للشك في أن حرمان الصينيين من فرصة تهدئة التوترات على المديين القصير والمتوسط وسط الغياب الأميركي في المنطقة يُعد إجحافاً بحقها كونها قوة كبرى.
وإذا كان النفوذ الاقتصادي للصين يجعل بكين ضامناً جديراً بالثقة لإبرام صفقة بين الرياض وطهران، فإن الصفقة في حد ذاتها تخدم، وبشكل واضح، مصالح بكين الخاصة. وعلى الرغم من سرية فحوى الاتفاق، فإنَّ البيان الذي صدر خلال الإعلان يتضمَّن التزامات بشأن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى واحترام السيادة. ومن المعقول أن نعتقد أن الإيرانيين قدموا تأكيدات للصينيين بأنهم لن يهاجموا المملكة بشكل مباشر، أو يستهدفوا البنية التحتية النفطية السعودية من الآن فصاعداً. وبما أن الحفاظ على استقرار الدولة السعودية والتدفق المستمر للنفط من الخليج يمثلان مصلحة صينية – سعودية مشتركة، فهناك أسباب وجيهة تدعونا للثقة بأن يُلقي الصينيون بجل قوتهم الاقتصادية في سبيل الحفاظ عليهما. وفي ظل غياب التزام أميركي بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي، فلماذا لا يُمنح الصينيون فرصة لمد يد العون؟
لا يعني كل ذلك أنَّ الصفقة تصب في مصلحة الولايات المتحدة؛ فالأمر على خلاف ذلك، حيث إن الصين التي بين أيدينا اليوم ترى في الشرق الأوسط ساحة كبرى لصراع القوى مع الولايات المتحدة. ومن خلال ترسيخ نفسها كضامن للأمن الإقليمي حالياً، وللتدفق الحر للنفط العالمي مستقبلاً، فإن الصين تُلقي بنظام الأمن الإقليمي للولايات المتحدة في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى مزبلة التاريخ، بعد أن أنفق في سبيل تأسيسه كماً طائلاً من الأموال، وعدداً كبيراً من أرواح الأميركيين والعرب.
ومن ثم، فإن السعوديين وشركاءهم الإقليميين يرغبون في رؤية قدر أكبر من الوضوح الأميركي بشأن أولويات واشنطن الاستراتيجية في المنطقة، والتزامها النظامَ الأمني الذي أسسته في الشرق الأوسط في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. كما أن السعوديين لا يبحثون عن إيذاء الآخرين في سبيل أمنهم أو لحماية بنية بلادهم التحتية للطاقة، بل بالأحرى يبحثون عن شركاء يمكنهم مساعدتهم في تجهيز قواتهم المسلحة بالموارد والأسلحة اللازمة لحماية وطنهم.
وفي حين لا تفطن فئة معينة من صانعي السياسة في واشنطن للأهمية الاستراتيجية للمنطقة، فإنَّ الصينيين لا يملكون رفاهية أن تراودهم أحلام اليقظة الجيواستراتيجية، ذلك أنهم يدركون الفوائد التي تنجم عن القدرة على تأمين – أو إيقاف – إمدادات العالم من النفط. وهم يدركون أيضاً أن اقتصادات العالم الكبرى – بدءاً من الصين – ستستمر في حرق الوقود الكربوني من أجل توليد الكهرباء، وتدفئة وتبريد منازل مواطنيها، وإمداد مصانعها ووسائل مواصلاتها بالطاقة، ومزاولة أنشطة الزراعة لإنتاج الغذاء.
لقد عانى النظام الأمني الأميركي في المنطقة من ضربات متتالية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، بدءاً بالانسحاب من أفغانستان والعراق، إلى السماح لروسيا بتأسيس موطئ قدم لها في شرق البحر الأبيض المتوسط، مروراً بإعطاء الضوء الأخضر للدوافع الإيرانية التوسعية وبرنامجها النووي من خلال خطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أنه لم يظهر بعد أي بديل موثوق به عن الزعامة الأميركية. وبمقدور الصين الصاعدة التي تمكنت من التوسط والتوصل للتقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية تغيير هذه المعادلة بسهولة. وحتى لو كانت واشنطن تُفضل النأي بنفسها عن التنافس مع الصين للهيمنة على المنطقة، إلا أن ذلك لن يقي الشرق الأوسط أو الأميركيين عواقب المعركة التي يبدو أن الصين عازمة على الظفر بها.