الثقافة البصرية تدخل عتمة الجفون المنسدلة لروبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي
صور راجت عالميا بوصفها لقطات لاعتقال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (يوتيوب)
لم يكن الأمر أن العيون لم تعرفه تحت عتمة الخداع الآتية من السيول المنهمرة للمحتوى الذي يصنعه الذكاء الاصطناعي، سواء ما يصنعه روبوت الدردشة “تشات جي بي تي” وأشباهه، أو تلك الآتية من التزييف العميق للأشرطة، والفيديوهات المركبة على تطبيق “تيك توك”، أو اللوحات التي تصنعها تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتوليد الصور كـ”ميدجورني” و”زابييه” و”كانفا” وغيرها.
الأرجح أن العيون الأميركية والعالمية قد عرفت أنها تشهد تلاعباً من تقنية “التزييف العميق” بصور الرئيس دونالد ترمب، بل ربما لاحظ معظمها خصمه القاطن في البيت الأبيض وقد تحور زيفاً إلى الهيئة الشائعة عن ضباط الـ”أف بي آي”، ضمن تلك الصور التي راجت عالمياً بوصفها لقطات لاعتقال الرئيس الأميركي السابق.
واستطراداً، لم تكن الضجة التي رافقت تلك الصور المصنوعة بتطبيقات توليد الصور بالذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence Image Generator عن اعتقال ترمب، سوى رجع الصدى لتلك التي رافقت صوراً وأشرطة مصنوعة بتقنية “التزييف العميق”، وقد استهلتها شركة “فيسبوك” قبيل اختتام العقد الثاني من القرن 21، كالتي زيفت في ربيع 2022 لتظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتعاطى الكوكايين ويتفاخر بتعاطيه.
هل أحدثت تلك الصور التأثير المطلوب؟ قد تصعب الإجابة قبل طرح سؤال عن التأثير الذي توخاه صناع ذلك النص البصري المؤتمت الزائف.
تشابك ترمب مع زمن ما بعد الحقيقة
قبل التصدي للإجابات التي لا يسهل تقديمها بثقة، ربما يفيد النظر إلى تقاطع مسارين في تلك الصور “الترمبية”. يتمثل أحد المسارين في ظاهرة حديثة راجت في السنوات الأخيرة وسميت “ما بعد الحقيقة” Post Truth التي اختارها “قاموس أوكسفورد” باعتبارها كلمة السنة في الثقافة العامة، خصوصاً في الفضاء الافتراضي، في عام 2016، أليس مفارقة أنها بالتحديد رافقت ظاهرة انتخاب ترمب رئيساً للولايات المتحدة؟
ويتجسد الثاني في مسار أكثر تطاولاً في الزمن بكثير، بالتالي فإنه أشد تعقيداً واستعصاءً، يتمثل في النظم البصرية التي صعدت إلى ذروة شاهقة مع الكاميرا والإنتاج الميكانيكي للوحات والسينما والتلفزيون وأقنية الكابل المعولمة والإنترنت، لكنها تبدو كأنها تسير الآن إلى بؤس الختام تحت ضربات الذكاء الاصطناعي التوليدي للصور.
لعله ليس من الصعب رؤية المسار الأول، المتمثل في ظاهرة “ما بعد الحقيقة”. ووفق مراجعة موسعة أجريت في “المركز الفنلندي المتقدم للقانون” في خريف 2018، تعبر تلك الظاهرة عن إحدى الذرى في ثقافة ما بعد الحداثة ومناداتها بسقوط السرديات الكبرى، منذ البيان الشهير للفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار المعروف باسم “مانفيستو ما بعد الحداثة” في سبعينيات القرن العشرين. في بداياتها، تعززت ثقافة الفرد مع مقولة سقوط السرديات الكبرى، كالأديان والأيديولوجيات والأفكار الفلسفية الكبرى والمقولات العريضة لمشروع الحداثة وغيرها، وأنجزت ثقافة الفرد قفزة كبرى مع العولمة، بل بدت كأنها وجدت في الفضاء الافتراضي للإنترنت مساحة لمعركة انتصارها، ويبدو أن الانتصار المعولم الهائل نفسه استولد نقيضه، وسرعان ما تذرت ثقافة الفردية كأنها تناثرت، وعلى نقيض الانتصار بات الإنترنت مساحة للـهويات الجماعية بأنواعها التي لا حصر لها، بل صار الفضاء الافتراضي ساحة لصراعات الهويات القاتلة، وفق تعبير مفضل لدى الكاتب المعروف أمين معلوف، استولت الهويات حتى على جسد الفردية، بدءاً من استلامه للوشوم المستقاة من أزمنة ماضية للهـويات ومروراً إلى تفجير أجساد من جندتهم الهويات الدينية الجماعية على الإنترنت، خصوصاً الإسلاموية الإرهابية، والقائمة طويلة.
جاء ترمب بالتحديد من تيار شعبوي رافض للعولمة، بالتالي تضمن رد فعل على ثقافة ما بعد الحداثة في توجهها الحداثي وما بعد الحداثي، بمعنى أنه تمرد على الثقافة الراسخة منذ انطلاق التنوير في القرن السادس عشر، وخصوصاً ما تكرس منذ الحرب العالمية الثانية.
تبدد الحقيقة وتفكك الفردية
مع ترمب وثقافة ما بعد الحقيقة، لم تعد الحقيقة في أي مكان. وضُربت المكانة الراسخة للعلم مع جائحة كورونا، على يد جمهور ترمب بالذات الذي راجت في صفوفه أيضاً تيارات رفض الكمامة واللقاح ومؤسسات الدولة الأميركية وتحويل كلمة نخبة إلى وصمة [بتعبير رفض مؤسسات الحداثة وما بعدها]، وتبني تيارات نسوية معارضة للنسوية التقليدية بتشديدها على قيم العائلة والترويج للولادة من المنزل بدل المستشفى واستعداء المثلية الجنسية وكل الاتجاهات غير التقليدية للهـوية الجنسية، والرفض المدوي لحق المرأة في الإجهاض [وقد وصل في أحد الولايات الأميركية إلى رفض إعطاء النساء وسائل منع الحمل، وتلك ضربة واضحة للحرية الجنسية] والقائمة لا حصر لها.
في السياق نفسه، صارت الحقيقة انحيازاً عاطفياً، وليس نقداً عقلانياً يستند إلى التمحيص في المعطيات وعكسها. ضاقت الحقيقة أمام توسع أيديولوجيا مبنية على نوابض غرائزية من نوع كراهية الأجانب والإسلاموفوبيا. [عربياً، هنالك ثقافة عنصرية مديدة، وعداء هائل للمرأة واضطهاد لا حصر له ضدها، لكن، تركيز الكلمات السابقة انصب على الغرب بوصفه مساحة الحداثة وما بعدها وباعتباره تجسيداً لمسار التقدم الحضاري].
في ذلك السياق، يرى “المركز الفلندي المتقدم للقانون”، أن هنالك مهمات للحقائق “البديلة” التي تتقبلها العقول ببداهة انجرارها وراء عواطف غريزية، لعل أبرزها هو لفت الانتباه وإثارة المشاعر وتحريك أجواء اللحظة، بالتالي يكون خطاب الحقائق البديلة في زمن “ما بعد الحقيقة” صالحاً للمؤيد والمعارض على حد واحد وسواء، والأرجح أن ثمة مثل مكثف على ذلك في مؤامرة الحكومة الدولية التي تقود العولمة التي يتبناها التيار المؤيد لترمب، وقد وصلت إلى حد أن الحزب الديمقراطي لم يعد يروج للعولمة، بل يجد حرجاً في ذلك.
ليست الكلمات السابقة سوى اختزال، بالتالي فإنها تفشل تعريفاً بسوى إلقاء ومضات سريعة على ظواهر فائقة التعقيد والتشابك، وفي المقابل، لعله من المستطاع الاستناد إليها للإشارة إلى حضور ذائقة ما بعد الحقيقة في الصور الترمبية الزائفة، التي تتجاوب مع تحريك الغرائز والانحيازات الانفعالية [لنتذكر جمهور السادس من يناير (كانون الثاني) 2021]، فيتساوى أن تكون مصنوعة من قبل مؤيدي ترمب، بل حتى القائلين بنظرية “كيو آنو”، أو من معارضيه!
حدثت نقلة نوعية في علاقة الجمهور مع العوالم الرقمية مع انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي (بيكسلز)
ذاكرة لفيلم “لا دخان بلا نار”
جاءت صور اعتقال ترمب في ظل تلك الموجة من النقاشات الإشكالية التي حركها إطلاق روبوت الدردشة “تشات جي بي تي” Chat GPT، وتنامي التناول الإعلامي للأشرطة المصنوعة بتقنية “التزييف العميق” Deep Fake، خصوصاً الأشرطة الإباحية المزيفة التي هددت كثيرين بتحطيم حياتهم وغيرها، ويندرج في السياق نفسه، تواتر حوادث تشي بموجة من استيلاء الذكاء الاصطناعي على صناعة الثقافة البصرية. ولنتذكر أخباراً توالت بسرعة عن فوز لوحة صنعها تطبيق “ميدجورني” بجائزة فنية في معرض للرسم في أميركا، وعرض نسخة صنعها ذلك التطبيق نفسه عن لوحة “الفتاة ذات القرط اللؤلؤي” للفنان الهولندي يوهانس فيرمير في عام 1665، في متحف “ماورتشهاوس” المعتاد على الأعمال الكلاسيكية، ومقطع فيديو مصنوع بتقنية التزييف العميق يظهر نجم موسيقى الراب إيمينيم وقد شن هجوماً مقذعاً ضد الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور.
وعلى غرار نصوص ما بعد الحقيقة، يرجح أن الهدف من تلك الأشرطة تحريك مشاعر الانحياز واستثارة العواطف المستندة إلى التأييد البديهي الذي تحمله الهويات الجماعية، ويعني ذلك أن ذلك النوع من المحتوى يستند إلى ذائقة في الجمهور المعاصر يمثل الشخص فيه للانحياز إلى ما يراه عقل الهوية الجماعية فيه، أي ذلك الذي يتحرك كأنه بداهة لأنه لا يخضع للتروي والنقد والتدقيق.
وباستعادة كلمات ورد آنفاً، النظم البصرية التي صعدت إلى ذروة شاهقة مع الكاميرا والإنتاج الميكانيكي للوحات والسينما والتلفزيون وأقنية الكابل المعولمة والإنترنت.
للتوضيح، ربما يفيد تذكر وصف المؤرخ الأميركي المعاصر مارتن جاي في كتابه “العيون المنسدلة” Downcast Eyes (1993)، للنظم البصرية بأنها صعدت من مركزية العين في الثقافة الغربية منذ زمن أثينا، ووصلت إلى ذروتها [ومأزقها]، مع زمن السينما والتلفزة.
وفي تذكر عن لحظة ذات دلالة لإحدى التقاطعات الزمنية في ذلك المسار،
يرد إلى الذاكرة الفيلم الفرنسي “لا دخان بلا نار” Il n’y a pas de fumée sans feu (1973) الذي أدت دور البطولة فيه الممثلة الأيقونية آني جيراردو. ويدور الفيلم على تزييف فائق الاتقان لصورة مطبوعة على الورق، كصور ذلك الزمان، يظهر زوجة أستاذ جامعي في لحظة الذروة من ممارسة جنسية جماعية، تعجز الأساليب كلها عن تبيان الزيف، وبالطبع قبلها تعجز العين، ويبقى عقل الزوج رافضاً التصديق، لكن شيئاً ما يتزعزع بفعل تلك الصورة الزائفة.
هل استبق ذلك الفيلم زمن ما بعد الحقيقة وسعيها إلى زعزعة اليقين بأكثر من المحاججة النقدية لمصلحة الحقيقة؟
في كتاب “العيون المنسدلة”، يتقاطع رأي المؤرخ مارتن جاي مع مقولة لمفكر أميركي آخر هو بول فيريلليو (رحل في 2018)، بأن العيون تحولت عبر مسار متعرج طويل، من أداة فضلى للرؤية الحقيقة وأن يؤمن العقل بما ترسله إليه، بل حتى باستعادة مقولة على غرار “رأيت يا توما فآمنت، طوبى للذين آمنوا ولم يروا”، إلى إحداث عمى فعلي في العيون عبر ضربها وإبهارها بسيول لا تنقطع من الصور، بدأت ببطء باللوحة ثم تسارع مع الكاميرا والفيلم والبث التلفزيوني، بالتالي باتت العيون عند ختام القرن العشرين مفتوحة لكنها مسدلة، تنهض بمهمة البصر لكنها لا ترى، بمعنى أن الرؤية فعلياً تتحقق مادياً في الدماغ، وفكرياً في العقل.
مع الإنترنت، وفق نعي شهير من فيريلليو، باتت العيون فاقدة القدرة على الرؤية، تحت سيول متهاطلة من النصوص البصرية [بل السمعية البصرية] عبر الإنترنت والتلفزيون المعولم والكمبيوتر وأنواع الشاشات الرقمية وغيرها.
بالتالي، مُهد طريق تاريخ النظم البصرية أمام الضربات القاسية، بل لعلها قاضية، للذكاء الاصطناعي التوليدي للصور والأشرطة.
في القرن العشرين، ظهرت ثقافة نقدية قوية ضد الاستيلاء على العيون بالنظم البصرية، في كتابات ظهرت خصوصاً في فرنسا، على غرار تلك التي وضعها رولان بارت وجورج باتاي وميتز ومارلو بونتي وفوكو وسارتر وغيرهم، في مسارات مختلفة، تقاطعت تلك الكتابات على مقاومة الاستيلاء على العقول عبر العيون والسيطرة على الرؤية.
ماذا لو حاولنا تقصي وجود ظاهرة مشابهة، خصوصاً في الولايات المتحدة والنظريات النقدية فيها؟ سؤال يقتضي نقاشات واسعة.