بركة الجزارين” جدارية سردية تكشف خلفيات عائلة ومجتمع بين ماض وواقع “
الروائية الإيرلندية روث غيليغان (دار سوي)
“معتمة، وحشية، أسطورية، آسِرة”، هكذا كتب الروائي الإيرلندي كولوم ماكاين عن الرواية الرابعة لمواطنته روث غيليغان “بركة الجزارين” حين صدورها العام 2022، وقد صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دارسوي بعنوان “الحقول المحطمة”. أربع كلمات، لكنها تكفي لقول ما ينتظرنا في هذا العمل الرائع، شكلاً ومضموناً، وفيه تثبت هذه الكاتبة الشابة ، مرةً أخرى، مهاراتها السردية والكتابية اللافتة، بخطّها داخله بورتريه دقيقاً لوطنها الممزق بين تقليد وحداثة، عن طريق قصة فتاة صغيرة تواجه عالماً عنيفاً.
وفعلاً، كل شيء يدور في هذه الرواية حول أونا، وهي فتاة في الثانية عشرة تعيش في ريف إيرلندا عام 1996. والدها كوش يمارس مهنة يكتنفها الغموض وترتبط بمعتقد قديم، فهو واحد من ثمانية جزارين يتنقلون معاً في مختلف أنحاء إيرلندا ويضطلعون بمهمة ذبح الماشية وفقاً لطقس دقيق يتوجّب الالتزام به، وإلا لحلّت المجاعة في البلاد. حول أونا، لدينا إذاً هذا الوالد الذي يمضي 11 شهراً في السنة على الطرق، وزوجته غرا التي تعتني بابنتهما أثناء غيابه وتلطّف عزلتها المطبقة، بزيارة صديقة وحيدة لها. وما أن نتقدّم قليلاً في الرواية، نتعرّف إلى خالتها لينا وزوجها فيون وابنهما المراهق دايفي. لكن أونا لن تعرف بوجودهم إلا لاحقاً، لأن خالتها فرّت وهي شابة من منزل والديها المحافظين، وانقطعت أخبارها. ست شخصيات رئيسية يضاف إليها مصوّر فوتوغرافي يدعى رونان مونكس، شخصيات ثانوية كثيرة، أبقار يتربّص بها مرض “جنون البقر”، وميت يُعثر على جثته في المشرحة معلّقة بالمقلوب في سقف الغرفة، بخطّافين مغروسين في قدميه.
الجزارون الثمانية
الرواية بعنوانها الأصلي “بركة الجزارين” (امازون)
الميت هو كبير الجزارين الثمانية. في مدخل الرواية، نراه في هذه الوضعية المرعبة داخل صورة التقطها المصور رونان، وتجاور صوراً أخرى له في معرضه النيويوركي عام 2018. صورة تجعلنا الروائية نتأمّل معها في تفاصيلها، بطريقة باردة، عيادية، قبل أن ترجع بنا إلى عام 1996 التي تجري فيه معظم أحداث قصتها. عام يغادر فيه الجزارون الثمانية منازلهم، مثل كل عام، لذبح ماشية المؤمنين بمعتقدهم وفقاً للتقليد الذي يوجب عدم غياب أي واحد منهم، ولمسهم جميعاً كل بقرة أثناء ذبحها. لكن ما ينتظرهم على الطريق سيقلب رأساً على عقب حياتهم وحياة زوجاتهم وأولادهم الذي ينتظرون عودتهم بفارغ الصبر…
الرواية بعنوانها الفرنسي “الحقول المحطمة” (دار سوي)
أحداث الرواية نتلقاها من وجهات نظر شخصياتها الست الرئيسة، فنعرف في مطلع كل فصل أين تدور ومَن يقرأها. لدينا أولاً أونا ودايفي اللذان يبحثان عن طريقهما الخاص ويرغبان في معانقة خياراتهما، لكنهما يعلمان جيداً أن قيامهما بذلك سيبعدهما عمّا ينتظره والداهما ومحيطهما منهما. أونا مستعدة لفعل أي شيء كي تصبح واحداً من الجزارين الثمانية، بما في ذلك التدرّب على هذه المهنة في السر بسكين مطبخ وفأرة. ومع أن أمها تسعى جاهدة لإفهامها أن هذا التقليد القديم على وشك التواري، وحلقة الجزارين غير مفتوحة للنساء، لكن هذه الفتاة التي تعيش في عزلة داخل رأسها، ترى في أمنيتها المستحيلة وسيلة للعثور أخيراً على مكانها في العالم. وفي انتظار تحقيقها، نراها مضطرة إلى مواجهة عدائية رفاقها في المدرسة الذين يرفضونها ويضايقونها بالشائعات التي تدور حول مهنة والدها. من جهته، يعاني دايفي أيضاً من مضايقات رفاقه في المدرسة، ولكن لسبب آخر، هو تفوقه عليهم في الدراسة وشغفه بالقراءة والأساطير الإغريقية. على طول الرواية، نراه يبحث عن هويته ويحلم بمتابعة دراسته في الأدب الكلاسيكي في دبلن، إلى أن يجعله لقاء صدفوي يكتشف مثليته المستحيلة داخل بيئته الكاثوليكية المحافظة.
اقرأ المزيد
- الروائية دولين فالديز تدخل جحيم العنصرية في أميركا
- الروائية مارغريت سكستون تكشف عن الوجه المعتم لأميركا
- الروائية فرانسواز ساغان حررت الكتابة من أية وصاية
حياة والدتي أونا ودايفي ليست سهلة أيضاً. فبسبب غياب زوجها كوش طوال السنة، تعاني غرا من ملل شديد يجعلها تشعر بالتلاشي، مما يدفعها في النهاية إلى إقامة علاقة عاطفية عابرة بالمصور رونان، على الرغم من حبّها لزوجها. شقيقتها لينا تعاني من ورم خبيث في الدماغ ومن علاقتها بزوجها فيون التي لم ترق إلى مستوى توقعاتها. فبعد ليلة سكر، أقدم هذا الأخير على كسر فكّها وأنفها، ومذّاك تسلط عليه شعور بالذنب وهاجس زيادة دخله لتوفير تكاليف علاجها في عيادة فاخرة، وهو ما يجعله يقبل المشاركة في عمليات تهريب أبقار مريضة من بريطانيا إلى داخل وطنه.
حياة على الطرق
هذا لا يعني أن الجزارين الثمانية يعيشون على الطرق حياة سعيدة. فمع زحف الحداثة إلى داخل إيرلندا، ينحسر عدد المؤمنين بتقليدهم. وبسبب مرض “جنون البقر”، يزداد قلق الناس وشكّهم بجدوى هذا التقليد، ويذهب بعضهم إلى حد الاشتباه في مسؤولية ممارسيه عن هذا المرض، وانتظار أول فرصة للاقتصاص منهم. وهو ما سيحدث في أحد المساءات، حين يدخل الجزارون الثمانية إلى حانة تعجّ بالثمالى، ويقع ما لا تحمد عقباه…
وتجدر الإشارة هنا إلى أن سردية غيليغان تتقدم ضمن توتر متصاعد يجعلنا نستشعر تهديداً خفياً، صامتاً، يحوم فوق رؤوس شخصياتها الرئيسة. شعور يعززه الوصف الصائب لأجواء بلد ــ إيرلندا ــ يقف عند مفترق طرق، تتجاذب أبناءه تقاليد ألفية متجذرة فيه، وحداثة واعدة بحياة أفضل. تجاذُب حاد وممزق يستحوذ على القارئ، لا سيما وأن العام 1996 هو عام داء “جنون البقر” الذي سيدخل إلى إيرلندا من بريطانيا بفعل نشاط التهريب على حدود البلدين، ويسرّع التحولات فيها، موقعاً المأساة التي ستجعل شخصيات الرواية تصطدم بعضها ببعض، قبل أن تتفرّق وتسلك كل واحدة دربها الخاص.
نص سيكولوجي معتم يغوص بنا في عمق شخصياته، عن طريق استرسال كل منها في الاستبطان والتأمل في ظروف حياته. ف”بركة الجزارين” هي أيضاً جدارية عائلية تنجح صاحبتها من خلالها في تعرية مشاكل المجتمع الإيرلندي الراهن والتحديات التي يواجهها، علماً أن أكثر ما يفتننا فيها هو ذلك المناخ الخاص، الملغز والمبلبل، الذي يختلط داخله الواقع بالفولكلور، على خلفية أسرار وأشياء نستشعر حضورها لكنها تبقى مضمرة حتى النهاية. تفتننا أيضاً شخصياتها المجسّدة بتعقيد كبير يبرز فرادتها، وفي الوقت نفسه، كل إنسانيتها. شخصيات تحتاج كل واحدة منها إلى تغيير شيء في حياتها الرتيبة لتحسين وضعها الصعب، وتبدو رازحة تحت وطأة شعور بالذنب أو أسئلة لا تملك أجوبة لها. شخصيات تتكشف عللها أو مكامن ضعفها لها، شيئاً فشيئاً، وتسعى إلى ترميم نفسها وتحقيق أمنياتها على الرغم من صدمات معيشها. لكن الحياة ليست نهراً طويلاً هادئاً…
تفتننا “بركة الجزارين” أخيراً بحبكتها المُحكمة واللغة الغنائية، الخافتة، التي تشحذها الكاتبة لها. لغة تمسك بنا بجمالياتها وصورها المبتكرة، وبالغموض والتلميحات الكثيرة التي تكتنفها، وتمنحنا الرغبة في مواصلة القراءة للاستمتاع بها ومعرفة مآل القصة المروية. وبما أن هذه الأخيرة تعجّ بالأحداث والتطوّرات المثيرة، نسير إلى نهاية النصّ بنشوة نادرة، ونتعرّف عن كثب مع صاحبته إلى بلدها الجميل، على الرغم من كل عيوبه وتناقضاته.