مصطفى الفقي
الأصل في الحضارة أنها منظومة من القيم والتقاليد المرتبطة بثقافة شعب معين والتي تنعكس على لغته وسلوكه ومظاهر حياته من مسكن وملبس وطعام، فالحضارة بنيان ثقافي بالدرجة الأولى مستمد من تاريخ الأمم وتراث الشعوب، لذلك فإن التساؤل الذي طرحناه في عنوان هذا المقال هو تساؤل مشروع بل وضروري في هذه المرحلة التي تمر فيها البشرية بمنعطف خطير يستوجب القلق ويستدعي الاهتمام. فلقد تزايد تأثير العامل الثقافي في العلاقات الدولية المعاصرة ويكفي أن نتذكر هنا أن القضايا الرئيسة الثلاث التي صدرها الغرب أو تحمس لها هي قضايا ثقافية بالدرجة الأولى، ونعني بها قضية العولمة وقضية صراع الحضارات وشعار الحرب على الإرهاب لذلك فإن تزايد تأثير الثقافة المعاصرة في حياة الشعوب على نحو امتد للتأثير في العلاقات الدولية هو أمر واقع يبدو واضحاً في كل جوانب حياتنا وأساليب تفكيرنا بل وأنماط معيشتنا، ولعلي أطرح هنا بعض القضايا المحورية التي تدور حول موضوع التساؤل الذي طرحناه اليوم وأهمها:
أولاً: إن النظرة الفاحصة لصادرات الفكر الغربي والتي أصبحت بالضرورة هي الواردات المتاحة أمام العقل الجمعي المعاصر هي أفكار متناقضة وقد تم الدفع بها في العقود الثلاثة الأخيرة وتحديداً منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وانهيار المنظومة الشيوعية، حيث بدأ الغرب في البحث عن عدو جديد بديلاً للخطر الأحمر ووجد ضالته في المد الإسلامي تحت مسمى «الخطر الأخضر» وأصبحنا أمام تحول ضخم في شكل العلاقات الدولية المعاصرة، وكان على العقل الغربي أن يملأ الفراغ الناجم عن انتهاء الحرب الباردة بأطروحات جديدة بدأها بالعولمة، وهي التي تعني انسياب الأفكار والسلع والخدمات عابرة الحدود بلا حواجز أو موانع إيماناً بالقرية الكونية الواحدة واستلهاماً لمفهوم (المواطن العالمي)، وقد أردف العقل الغربي ذاته بأطروحة أخرى تضمنها كتاب صموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات وهو أمر تبدو دراسته والبحث فيه تأكيداً واضحاً للتناقض مع فكر العولمة وكأن ذلك العقل الغربي الذي نمضي وراءه لقرون عدة قد أصبح يصدر لنا التناقضات، ثم استكملها بشعار الحرب على الإرهاب، ولا بأس في ذلك، ولكن الأمر تحول إلى تكية لضرب حركة الكفاح المسلح وحجب الحق في النضال من أجل التحرير واستعادة الأرض من مغتصبيها.
ثانياً: إننا لا نقول إن نظرية صموئيل هنتنغتون يصيبها العوار من بدايتها إلى نهايتها قولاً جزافياً، ولكننا نستند إلى المفهوم الإنساني للحضارات الذي يجعل الاشتباك والتواصل بل والتزاوج أحياناً هو الأمر الفصل وليس أبداً الصدام على النحو الذي تتحدث عنه النظرية. نعم إن الحياة تقوم على التنافس الذي يصل إلى حد الصراع ولكنه لا يتقدم بالضرورة نحو المواجهة الصدامية التي تجعل مفهوم الحضارة ينهار من أساسه، كما أن التوقيت الذي صدرت فيه نظرية صدام الحضارات هو توقيت مشبوه تم فيه استبدال خطر قديم بخطر جديد والغريب أن الخطرين يأتيان تحت مظلة حضارية تجعل الأمر برمته يحتاج إلى مراجعة قد تصل بنا إلى رفض النظرية وتقويض الأسس التي قامت عليها، ولعلنا نضيف هنا أن تلك النظرية القائمة على فكرة صنع عدو جديد قد ساهمت ولو في شكل غير مباشر في تغذية الإرهاب وإيجاد مبرر للعنف لدى الطرف الآخر نتيجة العداء الجديد الذي ينادي به العقل الغربي.
ثالثاً: كنت أعمل في العاصمة الهندية منذ ثلاثين عاماً ولفت نظري تعبير (الهند الصينية) واكتشفت أنه تجسيد للتزاوج بين الحضارتين الهندية والصينية، وكلما اتجهنا شرقاً زاد التأثير الصيني وكلما رجعنا غرباً زاد التأثير الهندي، وقد أمعنت النظر كثيراً في مظاهر التزاوج بين الحضارتين والاندماج بين الثقافتين بصورة تؤكد أن الحضارات تتواصل ولا تتنافر، وتمتزج ولا يعادي كل منها الآخر من منطلق حضاري، ولماذا نذهب بعيداً؟ إنني أشعر أحياناً في بعض المدن العربية في الخليج بالتأثيرات الثقافية الوافدة من الهند وأحياناً من منطقة وسط آسيا وصولاً إلى بلاد فارس، فالحضارات سلوك إنساني لا يتقاطع مع الخلافات السياسية أو حتى الحروب الموقتة، إذ إن الأبقى دائماً هو شبكة المصالح التي يستند إليها البناء الحضاري.
رابعاً: إننا لو نظرنا، على سبيل المثل، إلى دولة ملتقى مثل مصر فسنجد أنها عاشت على سبيكة حضارية تبدأ من الحضارة الفرعونية القديمة مروراً بالحضارتين الإغريقية والرومانية بما فيها الحقبة القبطية وصولاً إلى إشراقة الحضارة العربية الإسلامية التي شارك في تشييدها أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث، فقد استوزر الخلفاءُ والولاة المسيحيين واليهود في مواقع مهمة واعتمدوا عليهم في استكمال مظاهر الحضارة وتشييد جسور التواصل مع الآخر، ولعل تاريخ الدولة الفاطمية ومن بعدها دولة المماليك في مصر والشام هي خير شاهد على ذلك.
خامساً: إن الحس الحضاري لدى الشعوب الإسلامية المعتدلة يدعوها إلى الوسطية والتسامح والاعتدال فالحضارة العربية بناها المسلمون والمسيحيون واليهود، وفي القاهرة وحدها تسعة معابد يهودية صالحة لإقامة شعائر هذا الدين ومعبدان لليهود في الإسكندرية ولم يمسها مواطن مصري بضرر حتى في حروب 1948، 1956، 1967، 1973، بل إن وزير مال مصر منذ ثمانين عاماً فقط كان يهودياً مصرياً هو قطاوي باشا، فالحضارة العربية الإسلامية لم تعرف التعصب والعداء الديني أو الصراع الطائفي.
سادساً: إننا نضيف هنا وبغير تردد تفسيراً سلبياً ظاهراً لنظرية صراع الحضارات وهي أنها امتداد تاريخي للفكر الاستعماري القديم الذي كان يرفع شعار (تحديث النظم وتحضير الشعوب)، كمبرر للعدوان والاحتلال وها هو اليوم يرفع شعارات جديدة تبدأ من (مواجهة الأعداء الجدد) وصولاً إلى (مكافحة الإرهاب)؛ فالشعارات تبدو براقة ولكن الحقيقة تختلف تماماً، ولذلك فإن ما سمي نظرية صدام الحضارات إنما هو تخليق مشوه للفكر الاستعماري القديم الذي يصنع المشكلة لكي يعيش عليها وبها.
سابعاً: إن الذي يصنع الحضارة هو الإنسان سيد الكون وخليقة الله في الأرض، ولا شك في أن عبقرية الزمان والمكان ونوعية السكان تحددان نموذج التعايش المشترك والامتزاج الثقافي والانصهار السكاني. لذلك، فإننا لا نسمي التقدم التكنولوجي وحده باسم الحضارة لأن الحضارة بنيان فكري وأخلاقي يعتمد على مجموعة من القيم والأخلاقيات ويستند إلى تراث من الخبرات المتراكمة لدى المجتمعات التي تتوارثها جيلاً بعد جيل. من هنا، فإن الحديث عن الحضارة هو حديث يرتبط بعناصرها الأساسية وسياقها التاريخي والثقافي.
ثامناً: إن الحضارات التي تحمل في طياتها العلوم والآداب والفنون هي نتاج إنساني لا يمكن أن يكون ذريعة للصدام أو سبباً للصراع أو مبرراً للمواجهة. ونحن نظن أن الحضارات هي صناعة الحياة، بينما الصدام والحض على الكراهية وخلق العداء ودعم الإرهاب هي في مجموعها صناعة الموت، لذلك فإننا نأسف لأن يشط العقل البشري لكي يجعل من الحضارة وهي الحياة مبرراً للصدام والدمار على طريق الموت والفناء.
تاسعاً: إن الذين يعادون الحضارة العربية وحضارات الشرق والجنوب، وينظرون إليها باعتبارها حضارات الدرجة الثانية ويحاولون تشويهها تحت مسمى الخطر الأخضر عن الإسلام والخطر الأصفر عن الصين، لا يدركون معنى الحضارة ولا يعترفون بالآخر لأنهم يتوهمون أن «التحديث» هو «التغريب» ولا يتصورون أن هناك تجارب حضارية كبرى في العالم أضافت إليه وأفادت كل الأطراف بما فيها الغرب ذاته، وحملات التشويه لا تتوقف وما زلت أتذكر أنه يوم انتخاب بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة، قال المعلق في الإذاعة البريطانية: لقد تم اليوم انتخاب بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة وهو أفريقي ولكنه ليس أسود، وهو عربي ولكنه ليس مسلماً وهو مصري ولكنه يأتي من عائلة ثرية. فكأنما يريد أن يجرد الرجل من خصائصه الثلاث أفريقيته وعروبته ومصريته! هذا هو المنطق الذي يتعامل به الغرب أحياناً مع حضاراتنا.
عاشراً: إن الحضارة العربية في سنوات ازدهارها لم تفرق بين العرب والعجم، كما أن الإسلام الحنيف لم يميز بين حر قرشي وعبد حبشي إلا بالتقوى، ويجب علينا أن نتذكر جميعاً أن الله لو شاء لجعلنا أمة واحدة ولكن التنميط والتعددية هما سنة الحياة وفلسفة الوجود ولكن المساواة هي المنطق الذي يسود فوق الجميع حتى أن الله سبحانه وتعالى قد نادى في قرآنه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) صدق الله العظيم، ولم يقل سبحانه وتعالى أيها المسلمون فقط ولكنه جعل الدعوة عامة للناس كافة من دون عنصرية أو تعصب.
لقد أردنا من السطور السابقة أن نجيب عن التساؤل المطروح: هل الحضارات تتصادم أم أنها تلتقي إنسانياً في النهاية بعد كل شيء؟ والجواب يبدو واضحاً من كل ما سردناه، ويدفعنا ذلك الأمر إلى القول إن حوار الحضارات هو تفاعل إنساني وليس صداماً فكرياً أو صراعاً بشرياً، فالإنسانية كلها في قارب واحد إما أن يطفو أو يغرق الجميع.