ابتكارات موسيقية أعطت “الساعة الإسبانية” لرافيل نكهة غير متوقعة

1

كوميديا تمنح البطولة للموسيقى وتوزيعها وتستعير من التراث الإسباني حيويته

إبراهيم العريس باحث وكاتب  

من مشهد “الساعة الإسبانية” في تقديم لاحق للعرض الأول (موقع الأوبرا)

عام 1907 رأى الموسيقي الفرنسي موريس رافيل (1875 – 1937) أن الوقت حان أخيرا كي يكرم أباه بأن يكرس له عملاً موسيقياً من تأليفه. فبالنسبة إلى رافيل كان أبوه الذي بات متقدماً في العمر الآن وراء نجاحاته الموسيقية الكبرى، إذ كان مستشاره الرئيس ومستمعه الأول بل كان يحدث له كثيراً أن ينصحه بتعديلات تنم عن ذوقه الرفيع. ومن هنا كان تأليف الابن عملاً موسيقياً يليق بأبيه مسألة تفرض نفسها. غير أن موريس كان يعرف ولع الأب بفن الأوبرا ومن هنا، حتى إن لم يكن هو يحب التلحين للأوبرا حسم أمره في النهاية وقرر أن يكتب عملاً هزلياً في فصل واحد طويل يمتنع عن تسميته “أوبرا” لكنه سيأتي أشبه بالأوبرا تحت مسمى “كوميديا موسيقية” ولكن طبعاً ليس بالمعنى الذي كان بدأ يتداول في عالم الاستعراضات المسرحية، الأميركية خصوصاً، وسيشيع في القرن الـ20 إلى درجة حل فيها تدريجاً محل الأوبرا نفسها، بل بالمعنى الحرفي للكلمة أي أن العمل سيكون كوميديا بالفعل ويشتغل على الموسيقى الغنائية والفردية بالفعل أيضاً من دون أن يكون الرقص جزءاً منه. وفي النتيجة ولد العمل الذي سماه رافيل “الساعة الإسبانية” وتبين أن له علاقات كثيرة بإسبانيا، بل علاقة مباشرة وطريفة بالساعة نفسها ولنقل علاقة مزدوجة فهو من ناحية يستغرق 55 دقيقة على عادة الإسبان في قتل الوقت وستدور أحداثه في متجر للساعات!

البحث عن نص ملائم

وفي تاريخ هذا العمل أنه ولد فيما كان رافيل يبحث عن نص مسرحي يلائم ما كان يصبو إليه فشاهد ذات مساء عرضاً لمسرحية للكاتب فرانك نوهين عنوانها بالصدفة “الساعة الإسبانية”. وعلى الفور اجتذبه العنوان ووجد أنه لن يعثر في حياته على ما هو أكثر ملاءمة لمشروعه من هذا العمل ومن فوره اتفق مع الكاتب على موسقته وانصرف إلى الاشتغال عليه طوال صيف عام 1907، متوخياً فيه أقصى درجات التجريب، لكن التجديد الموسيقي الكبير الذي اشتغل عليه هنا جعله لا يتنبه إلى أن الرقابة دائماً في المرصاد، إذ إلى جانب التجديد الفني والأسلوبي، لن يتوانى رافيل عن سلوك درب الجرأة الأخلاقية، مما أثار في الوقت نفسه غضب صالة “الأوبرا – كوميك” الباريسية التي كانت تعاقدت مع الموسيقي لتقديم العمل، إذ وجدته “فضائحياً” ويحمل كثيراً من الانحلال. ولئن كانت نخبوية المسرح الفرنسي يمكنها التسامح معه إذ يقدم في صياغة مسرحية، لا شك في أنه حين يتحول إلى عمل استعراضي يفقد نخبويته ويحتاج بالتالي إلى كثير من “التخفيف”. فرفض العمل وطلب من رافيل أن يجري فيه عدداً من التعديلات المهمة. لكنه رفض ذلك وأصر على رفضه. ومن هنا ظل العمل في أدراج الموسيقي منتظراً حتى عادت إدارة الصالة عن قرارها عام 1911 وبات في إمكان “الساعة الإسبانية” أن يرى النور. فكان تقديمه الأول في شهر مايو (أيار) من ذلك العام.

getty.jpeg

موريس رافيل (1875 – 1937) (غيتي)

بعيداً من إدراك الجمهور

 يومذاك وفي غمرة النجاح النسبي فقط الذي كان من نصيب ذلك التقديم، تحدث رافيل نفسه في الصحافة مقدماً لعمله بقوله “في الحقيقة أنني كنت منذ أعوام عدة أحلم بخلق عمل ينتمي إلى ما يمكن أن أسميه موسيقى فكاهية. لكني لم أم قد اتخذت قراراً بكيف يمكن لتلك الموسيقى أن تكون. كنت أعرف فقط أن الأوركسترا الحديثة قادرة على أدائها إذا كانت ثمة روح مرحة تحكم التوزيع الأوركسترالي فقررت أن أجرب حظي بالتركيز على “الإيفيهات” الهزلية في التوزيع، بل حتى أن أبالغ في اللجوء إلى نوع من البورليسك الذي أوحت به لي الموسيقى المصاحبة للبورليسك في الأفلام الهزلية. وحين شاهدت مسرحية فرانك نوهان عرفت على الفور أنني وجدت ضالتي وبكل المعاني التي أتوخاها. أدركت أن هذه “المهزلة المسرحية” هي المسند الذي كنت أنتظره كي أرمي عليه تجاربي الموسيقية الجديدة. وكان ثمة هنا أمور عدة فتنتني حتى قبل تصميمي للأطر الموسقية ومنها في المقام الأول ذلك المزج بين الحوارات المنتزعة من الحياة اليومية واللغة الشعرية المفخمة التي تشكل جزءاً من المشهد وتتسم في نهاية الأمر بعبثية لا حدود لها. ولكن هناك أيضاً المناخ العام للمكان الذي تدور فيه الأحداث، إنه متجر لبيع الساعات وتصليحها كما لبيع الأجراس. إنها بيئة صوتية تعج بالإمكانات وتخلق من دون أي تطفل عالماً موسيقياً بأكمله فارضة إيقاعاته فرضاً”. ومن المؤكد أن كل تلك العناصر التي سيشتغل عليها رافيل بدقة ودهشة حين بدأ يلحن العمل، كانت من الأهمية المضبوطة ضبط الساعة بالنسبة إليه بحيث أنه حين طلب منه أن يعدل رفض لأنه مدرك بأن أي مساس بأية لحظة إيقاعية من لحظات العرض يمكن أن يدمره ويلغي مبرر وجوده. فما هي الحكاية هنا؟

حكاية بسيطة

الحكاية بسيطة على أي حال. فحين يفتح الستار نجدنا داخل متجر الساعات ونجد الحسناء كونسبسيون زوجة توركميدا صاحب المتجر تدخل غاضبة لتؤنب زوجها على كونه تأخر عن الجولة التي يقوم بها يومياً لضبط ساعات المدينة. فيسرع الرجل مرعوباً من زوجته كما من عواقب التأخر. لكننا سرعان ما سنكتشف أن الزوجة لعوب وأنها تستغل غياب زوجها في جولته اليومية كي تستقبل عشاقها وطالبي القرب منها ومن بينهم شاعر موله بها لا يكف عن محاولة التغزل بها بشعر عبثي ساذج. وها هو الشاعر يصل الآن ويبدأ بث لواعجه غير مبال بالعامل مفتول العضلات الذي تركه توركميدا في المكان طالباً منه الانتظار ريثما يعود لتسوية بعض الأمور. وعندما لفت العامل نظر الزوجة بقوته بدأت تغازله طالبة منه بجسده الرياضي وعضلاته المفتولة أن يحمل لها واحداً من بندولين ضخمين ثقيلي الوزن وينقله إلى الطابق الأعلى حيث شقتها الزوجية. ويقوم الشاب بذلك من دون أن يشتبه في رغبات المرأة أول الأمر. فتزداد هي رغبة فيه فتكرر الطلب بالنسبة إلى البندول الضخم الثاني فيما “الشاعر” لا يزال على حاله التي نفهم أنها حاله بشكل يومي. وبسرعة نفهم هنا أن مشكلة هذا الشاب ويدعى روميرو تكمن في عدم قدرته على التحدث إلى النساء. مهما يكن فإن ذلك الحراك المتعدد بين الطابقين وبين الحسناء والشابين سيضاف إليه في النهاية وصول عاشق آخر لكونسبسيون هو الثري دون غوميز الذي يتفادى الجميع ويتنقل بدوره مثيراً اشمئزاز الحسناء لأنه يستخدم في غزله أسلوباً لا يروق لها. ومن هنا يقع تفضيلها بعد سلسلة من سوء التفاهم يلعب فيها البندولان دوراً مهماً لينتهي الأمر بعودة توركماد الذي سيسره ملاحظته مرح زوجته وسعادتها وشعورها بالرضا هي التي كان تفضيلها ذهب ناحية العامل الشاب وقررت أن يكون عشيقها الجديد.

في إطار هذه الحكاية إذا عرف رافيل كيف يلقي تجديداته، لا سيما من ناحية اشتغاله على الإيقاعات الإسبانية بشكل واسع وهو كان أمراً محبباً في ذلك الحين، ومن ناحية ثانية بفضل المناخ الصوتي الرائع والفريد الذي جعله للعبة الساعات وتكاتها بحيث خلق خلفية موسيقية مدهشة هيمنت على العمل ككل وأعطت مكاناً فسيحاً للحوارات كي لا تبدو مغناة أو ثقيلة الوطأة في نهاية الأمر، لا سيما أن استخدام آلات موسيقى الرقص الإسبانبة كالكاستانييت مثلاً أضفى على المناخ الموسيقي العام سحراً لا يضاهى.

العودة للنجاح… بعد حين

والحقيقة أن هذا بدا واضحاً منذ اللحظة التي أزيح فيها الستار عن العرض حتى ولو كان من الصعوبة بمكان على الجمهور العريض أن يدرك ذلك منذ البداية. ومن هنا كانت نسبية النجاح التي لم تغظ رافيل، فهو كان يعرف أن أي تجريب يحتاج إلى وقت لفرض نفسه وإلى وقت كي يفهم. وكان هنا على حق، فالعمل سيعود ويقدم في حلة جديدة عام 1921 في “أوبرا – كوميك” ليلقى نجاحاً غير متوقع خيل لكثر معه أنه يقدم للمرة الأولى. لكن والد رافيل كان رحل قبل ذلك ولم يتمتع بالنجاح الذي حققه ابنه بفضل ذلك العمل، ولا طبعاً بالنجاح الدولي الذي سيحققه بفضل أعماله الأوركسترالية الكبرى الأخرى، لا سيما “البوليرو” الشهير الذي كتبه عام 1928 وسيصبح عملاً أيقونياً كبيراً في تاريخ الموسيقى في القرن الـ20.

التعليقات معطلة.