أزمة تضاؤل وجود المسيحيين في العراق بلا حلول قريبة

1

الطائفيون أشعلوا حروباً دينية لأهداف اقتصادية وسعوا إلى الهيمنة على المكون المسيحي

صباح ناهي باحث وكاتب عراقي  

نزح المسيحيون إلى إقليم كردستان نتيجة الاستهداف المستمر لكنائسهم وأديرتهم المنتشرة في عموم العراق (أ ف ب)

ظلت المسيحية في العراق لقرون خلت من قبل مجيء الإسلام محتفظة بطابعها السرياني – الآشوري، لغة وأسلوب حياة، ولم تتعرب كما حصل في بلاد الشام ومصر، والأوضح في هذا الواقع هو بقاء اللغة والكتابة السريانية كلغة تخاطب يومي، بمختلف لهجاتها التي ظلت سائدة في تعاملات مسيحيي العراق بمختلف توجهاتهم ومشاربهم، لا سيما في المدن الكبرى مثل بغداد والموصل وأربيل والبصرة ودهوك وكركوك، وأقضية مثل زاخو، وعموم سهل نينوى، وذلك على رغم تخاطبهم اليومي مع المجتمع العراقي ذي الغالبية العربية المسلمة باللغة العربية التي برع كثير من المسيحيين في علومها، بل ألفوا قواميس مثل إنجازات أسرة الكرملي وسواها.

ملح الأرض

وهذا الحال لم يكن وافداً أو مصنوعاً بفعل عوامل خارجية، بل يدخل في نسيج المجتمع العراقي الذي سبق الإسلام، لا سيما في العاصمة المسيحية القديمة “الحيرة”، الواقعة وسط العراق قرب الكوفة، إذ تشير الدراسات إلى أن غالب سكان العراق آنذاك كانوا من الديانتين المسيحية واليهودية، فمنذ سقوط بابل على يد الفرس الساسانين حتى الفتح العربي – الإسلامي، كان العراق لألف عام يعيش في ظل الديانة المسيحية في الحيرة ودولة المناذرة. وكانت الحيرة عاصمة مسيحية بامتياز، حتى بات المسيحيون ملح الأرض العراقية، وامتد الحال للحقب اللاحقة زمن الدولة العباسية العربية المسلمة التي حكمت 500 سنة، حتى سقوط بغداد على يد المغول في عام 1258م، إذ كان المسيحيون العرب في مقدمة من خدموا في بلاط الدولة، وترجموا عن اليونانية والرومانية، وبرعوا في العلوم والطب والقانون والموسيقى، وكان جل اهتمامهم بعلوم اللغة والمنطق والفلسفة.

العنف الطارد

وحين نعاين تاريخ العراق نرى أنه كلما تقدم الزمن زادت محن المسيحيين وباقي الأقليات الإثنية فيه، حيث بدأت مظاهر العنف ضدهم في العصر الحديث منذ مطلع القرن العشرين، حتى شكلت هجرتهم ظاهرة تكبر كل حين، وتؤلم عموم المجتمع العراقي، وهو يلمس تناقص عددهم رويداً رويداً، كلما زادت الحروب وحلت القلاقل واضطرب المجتمع. وفي حين أن المسيحيين في العموم مسالمون لا يحبذون الحلول العنفية، بدأت مغادرتهم بوتائر متصاعدة بعد أن شعروا بتناقص أعدادهم منذ اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية التي قتل وجرح فيها ملايين من الطرفين، وامتلأت المدن والقرى العراقية بلافتات “الشهداء”، وكانت أسماء العراقيين المسيحيين من بينهم، حتى لجأوا إلى الهجرة ومغادرة البلاد بعد أن اكتشفوا أنهم في رحى حرب لا طائل منها، ولا منتصر فيها، خطابها عقائدي إسلامي، في مواجهة تحصد الأخضر واليابس.

الهجرة الأوسع

 لكن وتائر تلك الهجرة وتناقص أعداد المسيحيين العراقيين بدت أكثر تسارعاً بعد عام 2003 إبان الاحتلال (2003-2011)، إذ قال رئيس أساقفة أربيل المطران شارلبورد إنهم خسروا مليون نسمة بعد عام 2003، ولم يبق منهم إلا 300 ألف مسيحي، معظمهم نزحوا إلى إقليم كردستان في الشمال نتيجة الاستهداف المستمر لكنائسهم وأديرتهم المنتشرة في عموم العراق، جراء مظاهر الحرب الطائفية التي اندلعت في عام 2006 إبان حكم رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، وبعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، فكانوا الحلقة الأضعف في المجتمع لعدم تسلحهم، وفلسفة السلام التي تسود أرواحهم، أو لحصولهم على دعم داخلي محدود، لا سيما أنهم ثاني طائفة دينية من حيث الحجم بعد المسلمين، لكنهم يشتركون مع الطوائف والأقليات الأخرى كالصابئة واليزيدية والشبك والكاكائية والبهائية واليهودية بقلة نسبة الوجود، غير أن المسلمين يمثلون 97 في المئة من عموم السكان، وفق الإحصاء المعتمد لعام 1977، وكانوا – وما زالوا – يهيمنون على الدولة وأسلحتها ومقدراتها.
في المقابل، هناك تضارب في أعداد المسيحيين حالياً في العراق، والذين هاجروا. ويقول الأب مارتن هرمز داود المتحدث الرسمي باسم ديوان أوقاف الديانات المسيحية والصابئة المندائية، لـ”اندبندنت عربية”، إنه “لا توجد إحصائية دقيقة عن أعداد المسيحيين المغادرين أو بالعموم عن الهجرة الداخلية والخارجية في العراق، لكن ما هو متداول بين أوساطنا وما يتداول أحياناً في الإعلام أن المكون المسيحي خسر ما بين 80 و90 في المئة من وجوده الفعلي في العراق قبل عام 2003 إلى اليوم، فإن كنا بعدد مليون ونصف المليون إلى مليون و300 ألف قبل عام 2003، فنحن اليوم بين 180 و200 ألف مسيحي في العراق”.


أسباب الهجرة

وعلق الأب مارتن هرمز على أسباب التناقص المريع في أعداد طائفته فيقول “لا يمكن توجيه أصابع الاتهام اليوم لأحد أو لجهة، أو الدخول في نظريات المؤامرة، لكن الأوضاع المضطربة لمسألة تغيير النظام والحكم من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديمقراطي بين ليلة وضحاها، بتدخلات خارجية كان لها أثر كبير في خلق عدم استقرار وزعزعة المجتمع، وفرض هيمنة بعض السلطات، ومحاولة كل جهة أن يكون لها اليد الطولى في إدارة الدولة في مرحلة ما بعد التغيير، هذه الأمور كان لها دور كبير في زعزعة المنطقة والمحافظات العراقية بالعموم، وأثرت بشكل كبير على المكونات، وبخاصة الأقليات في العراق التي تأثرت من البداية، وأدت إلى نزوح كبيرة وتغيير وجودهم في العراق، جراء إحساسهم بعدم الأمان، ولم تكن هناك رؤية واضحة للمستقبل وتقدير لما هو آتٍ، فالصراعات كانت أكبر من قدرتنا ورافقها انفلات وغياب القانون في السنوات الأولى وصراع الهويات وهيمنة القوى التي كان لها تأثير كبير في عدم استقرار وضع المسيحيين بالخصوص، ووضع العراقيين في العموم. وبالتأكيد في حالات كهذه تكون هناك جهات معينة تحاول في ظل ظروف كهذه أن تستفيد بشكل أو بآخر لتمرير أجنداتها الخاصة، سواء كانت أجندات فكرية عقائدية أو سياسية إقليمية، كان لها دور في محاولة إفراغ المنطقة من المكون المسيحي، لكن هذا يفرض تساؤلاً: هل هو توجه عام؟ بالتأكيد كلا، فكثير من الوطنيين في العراق لا يرغبون في أن يروا العراق خالياً من هذا المكون الأصيل، مع الإشارة إلى أن الأمر لا يخلو من بعض الجهات التي حاولت الانتفاع عبر تمرير أجنداتها الخاصة لدفع المسيحين للخروج من البلاد، سواء لأغراض السيطرة أو الهيمنة، أو لسرقة ممتلكاتهم، وغيرها من الجوانب المستخدمة في تحقيق سياسات خبيثة”.

تهجير تاريخي

 لكن النائب السابق في البربمان جوزيف صليوه عن حزب “اتحاد بيت النهرين الوطني” يذهب بعيداً في تفسير هجرة وتهجير المسيحيين العراقيين، فيقول إنه “على رغم أنه لا توجد إحصائيات دقيقة للمهجرين المسيحيين، لكن الحقيقة هي كالتالي، إن الكلدان الآشوريين وبقية تسميات المسيحيين، يهجرون ويهاجرون منذ 1400 سنة خلت، وكانت آخر وجبة تم تهجيرها قسراً، وهي على وجبتين، بعد سقوط النظام في عام 2003، وبدء الحرب الطائفية، ومن ثم دخول (داعش) إلى نينوى الذي تسبب في تهجير مليوني مسيحي. أما بالنسبة إلى العدد الباقي، فليس هناك أي إحصائيات دقيقة، ويقدرون بين 500 و700 ألف مسيحي باقين في العراق”.
ويعزو صليوه أسباب هجرة المسيحيين إلى عوامل قسرية “في مقدمتها تبني الدستور العراقي دين للدولة، والحقيقة أن الدولة لا دين لها، وانما هي كيان جغرافي مادي، والكيان المادي لا دين له، في حين تفرض على الدولة الشريعة الإسلامية وعلى غير المسلمين، وهذا أجبرهم على الهجرة. وهناك أيضاً ممارسات سياسية قمعية في سلطتي المركز والإقليم، فهناك تهميش سياسي متعمد. وأيضاً بسبب انعدام الأمان والقانون وتبني عقلية طائفية قومية دينية عنصرية، بل تشريع قوانين عنصرية دينية، بالتالي اختزال مؤسسات الدولة بجهة معينة أو دين معين في حين أن العراق بلد تعددي الثقافات والانتماءات والأديان والأعراق. هذه العوامل كلها اجتمعت وساهمت في أن لا يشعر المواطن العراقي الكلداني – السرياني – الآشوري – المسيحي بأن هذه الدولة دولته، وإنما هذه الدولة هي دولة الآخرين العنصريين، بالتالي تفرض عليه أجنداتهم وعقلياتهم ودياناتهم وسياساتهم، لذلك بات يفضل العيش خارج الوطن ليحمي نفسه من الموت ويصون كرامته التي أضحت غير مصانة في بلاد ما بين النهرين التي هي بالأصل أرض الكدان – السريان – الآشوريين”.

الدستور والتمثيل النيابي

ويظهر واقع المسيحيين المتردي في بعده التمثيلي جراء أزمة الهجرة القسرية التي فرضت مع الواقع الجديد بعد عام 2003 وصياغة دستور يؤخذ عليه أنه كتب سريعاً في ظل وجود المحتل في عام 2005، وقسمة الغرماء التي تخطت حقوق الأقليات في التمثيل حيناً، وفي توزيع ممثلي جمهور الأقليات الدينية والطوئف أحياناً.
ويقول النائب السابق جوزيف صليوه إنه “لا وجود لتمثيل مسيحي كلداني – سرياني – آشوري في العراق وفي الإقليم على رغم وجود كوتا (حصة) لهم، لكنها لا تمثل المسيحيين، وإنما تمثل أحزاب السلطة في الحكومتين في بغداد وكردستان العراق على حد سواء. فهم يستجلبون شخصيات هي عبارة عن دمى، أسماؤهم مسيحية، وديانتهم مسيحية، ولكن أجنداتهم تتبع أجندات تلك الأحزاب السلطوية. والغريب أن رموز السلطات اليوم كانوا يعانون سابقاً حين كانوا في المعارضة معادلة التمثيل الشكلي، لكنهم اليوم يعاملون المسيحيين بالطريقة نفسها، بجلب أشخاص ليجعلوا منهم أدوات قمعية يضربون كينونة الوجود الكلدو آشوري – السرياني المسيحي، ويكونون اليد الضاربة بيد أصحاب السلطتين وباسم مقاعد الكوتا المسيحية، لذ فالنتيجة هي أنه ليس هناك أي تمثيل مسيحي حقيقي، وما من حماية للكوتا التي وضعت على أنها تمييز إيجابي، وقد طرحنا آليات، ولكن لم تقبل تلك الآليات حتى هذه اللحظة”.

الكوتا المسروقة

لكن الأب مارتن هرمز داوود، المتحدث الرسمي باسم ديوان أوقاف الديانات المسيحية الإيزيدية والصابئة – المندائية، له رأي أشد وضوحاً، إذ قال إن “النظام العراقي حاول من خلال الدستور العراقي أن يكون هناك تمثيل للأقليات، وهو نوعاً ما، عادل لكل المكونات، لذلك هناك مبدأ الكوتا في البرلمان العراقي، لكن مسألة الصراع الكبير على مقاليد السلطة والقوة، هي من يحرك الأمور في العراق، ليتحول الصراع على المقاعد الخمسة التي خصصت للمكون المسيحي، فنرى أن هناك هيمنة من قبل جهات أخرى متنفذة وأحزاب أو أصحاب القرار، لمحاولة الهيمنة على هذه المقاعد، بتمثيلها من قبل مسيحيين ممن لديهم تشارك أو تحالف مع هذه الأجندات الخاصة، بالتالي ظلت الأحزاب تهيمن على تلك المقاعد من خلال الأصوات من خارج المكون المسيحي، لذلك نرى اليوم أن التمثيل ليس بالشكل المطلوب حقاً، ونرى أن مخرجات جهود هذه المقاعد والكوتا، لم تمثل المكون بشكل صحيح لتحقيق الغايات أو بشكل يحقق مكتسبات لهذه المكونات، فهو تمثيل قاصر، وقد أعلمنا به عديداً من المرجعيات السياسية والدينية، ونقلنا اعتراض المكون المسيحي على الهيمنة التي أصبحت اليوم وكأنها عادة ومن الأمور المسلم بها أن يكون ولاؤها لأحد المكونات المهيمنة، إن كان المكون الكردي أو المكون الشيعي أو السني”.
وأخيراً، يجمع المثقفون العراقيون على أن المسيحيين هم ملح الأرض العراقية الذين استوطنوا العراق قبل أكثر من 2500 عام، وكانوا بناة الوطن العراقي وعنوان رحلة وجوده، وغيابهم يهدد السلم المجتمعي، ويفقد العراق نكهته، وفخره بأنه بلد فسيسفساء ملونة من كيانات وطوائف أدمنت البقاء في وطن تجري فيه الخيرات كما تجري الأنهر.

التعليقات معطلة.