توم لوتز يشرح مظهراً انفعاليا وجسمانيا وأسطوريا يرافق البشرية منذ القدم
لوحة للرسام شيفان داس (صفحة الرسام – فيسبوك)
هل يحتاج الأمر إلى أدلة على رسوخ ظاهرة البكاء في التاريخ البشري وربطها بالتحولات الكبرى في حياة الإنسان منذ أن وعى وجوده، وباشر تأريخ نشاطه لـ 10 آلاف سنة خلت على ما يقول العلماء؟ للإجابة عن هذا السؤال كان الكتاب المرجعي المهم الذي أعده الكاتب والروائي المتعدد المهارات توم لوتز ونقله إلى العربية الشاعر واللغوي الليبي عبدالمنعم محجوب، وحقق في مصطلحاته الطبية الدكتور منصور العبيدي، ودقق في مصطلحاته النفسية الدكتور أوس الفيتوري.
ظاهرة البكاء والدموع المعاصرة
في مقدمة الكتاب يشرح المؤلف توم لوتز طبيعة الدافع الذي أملى عليه درس ظاهرة الدموع من دون غيرها، فقال ما مفاده بأنه لما كان البكاء “ظاهرة بشرية عالمية” لا يختص بها شعب أو فئة عمرية دون أخرى، وإن تفاوتت النسبة بين الجنسين على ما نرى لاحقاً، ولما كانت أبعاد هذه الظاهرة تتجاوز الإطار الانفعالي وتتعداه إلى الفيسيولوجي والنفسي والتاريخي والأدبي، فقد رأى لزاماً عليه أن يسلط ضوءاً جديداً عليها فيعتمد لدرسها منهجاً بينياً يستعين بموجبه بعدد من الدراسات المنتمية إلى ميادين علمية مختلفة ومتكاملة.
ويورد في هذا السبيل عدداً من المبادرات إلى دراسة “فلسفة الدموع” نظير ما اقترح الشاعر إدغار يونغ عام 1760، أو دراسة “الجهاز الدمعي” التي أعلن الباحث موروب ديل كاستليو إعدادها عام 1983، وغيرهما.
الكتاب بالترجمة العربية (دار سبعة)
ثم إن الكاتب توم لوتز إذ يختار هذا المنحى فإنه يماشي اتجاهاً معاصراً يكاد يكون طاغياً إلى إظهار الانفعال وعدم الخشية من مفاعيل ذلك الإظهار، ولكأن شعار الناس أمسى “أنا أشعر إذاً أنا موجود”، على ما قال عالم النفس باتريك لوموان.
ولو قصدنا إلى تعداد الأمثلة على هذه الظاهرة مقتطفة من الأحداث المنقولة عبر الإعلام في القرن الـ 20 وأوائل الـ 21 لوجدنا ما لا يحصى منها، بدءاً بدموع الجموع الغفيرة على موت اللايدي دي (الأميرة ديانا) ودموع الملكة إليزابيث الثانية خلال قداس تذكار الموتى في الحربين العالميتين، مروراً بمشاهد البكاء لدى عشرات آلاف النساء والأطفال الذين يفرون من ساحات المعارك سواء في أوكرانيا أو في السودان وغيرهما من مناطق النزاعات في العالم، وصولاً إلى عشرات آلاف مشاهد البكاء تتوالى أمام أنظار الناس في العالم، ناقلة آونات حزنهم وفرحهم ونجاحهم وموت أقربائهم وولادة أبنائهم والأحفاد وبكاء هؤلاء الأطفال لحظة إقبالهم إلى الحياة.
دموع الملذة ودموع النعمة
يشار إلى أن الكتاب الموسوعي ينقسم إلى خمسة فصول، الأول منها يفصل فيه الكاتب في نوعي الدموع الكبيرين، عنيتُ بهما دموع الملذة ودموع النعمة، ويمضي الكاتب إلى شرح النوع الأول بالعودة لإحدى أقدم الأساطير الفينيقية المكتشفة في رأس شمرا، التي تروي فيها حدث موت بعل، إله الأرض، وبكاء عنات أخته عليه، وقد راحت “تشرب الدموع كما الخمر” وتصيبها اللذة من ذلك، إذ تعيد دموع عنات بعلاً إلى الحياة، فضلاً عن أسطورة أدونيس وعشتروت أو عشتار في بلاد فينيقيا الساحلية الجنوبية (لبنان و فلسطين) والتي تزخر بمشاهد البكاء على الفتى الجميل تؤديها النسوة في مراث كرنفالية يضاعف أثرها اصطباغ نهر أدونيس (إبراهيم) بالأحمر كناية عن دم الشهيد المهراق إلى أن يعلن الربيع عن قدومه بتفتح أزهار شقائق النعمان الحمراء، كناية عن انبعاث أدونيس من الموت وقيامته.
الكتاب بالإنجليزية (أمازون)
وفي تفحص سريع لمدونات الأساطير اليونانية يجد الكاتب لوتز أنه غالباً ما أعقب الحزن والدموع نوع من التعويض عن الحزن على ما أورده يوريبيديس، إذ يقول “ما أجمل الدموع، ما أحلى المراثي، أود أن أغني المراثي بدل أن آكل أو أشرب” (ص 38).
وقد لاقاه في ذلك القديس توما الأكويني، من القرن الـ 13، إذ رأى في الدموع تخفيفاً لمعاناة الباكي ونوعاً من المتعة، بل والتطهر (كاتارسيس) الذي افترضه أرسطو أحد أهم مفاعيل الأداء المسرحي الدرامي.
بيد أن رجال الكنيسة الأوائل في القرن الرابع كانوا سباقين في هذا الشأن حين وضعوا نظريات مسهبة حول الدموع بجعلها أنواعاً “دموع الندم ودموع الحزن ودموع الفرح ودموع النعمة” (ص 40) والنعمة تعني الامتلاء من الروح القدس والكمال من الخطيئة، ويستدعي التصنيف الأخير أن يكون المؤمن عارفاً دلالات سلوك البكاء والدموع وفقاً لكل من هذه المواقف أو الأنواع.
وفي المقابل يرى المتشكك الأبدي إميل سيوران في كتابه “دموع وقديسون” أن الدموع التي يذرفها بعض المؤمنين ويزعم أنها علامة على قداستهم، إنما هي دليل على “شهوانية معاناتهم” ليس إلا، وكان سبقه إلى ذلك الاستنتاج الشاعر الفرنسي جان راسين في القرن الـ 17 حين أطلق تسمية “الدموع الشهوانية” على ما يذرفه الممثلون والمخرجون والمسرحيون والروائيون والشعراء من دموع.
العلوم تدرس الجسد الباكي
في الفصل الثاني من الكتاب يتناول المؤلف لوتز دروساً تفصيلية لعملية البكاء وللأعضاء المسهمة فيها بدءاً بالعينين وقرنية العينين والسوائل التي توفر ليونة حركتهما والغشاء السائل، مروراً بأنواع الدموع من النفسية والانفعالية والانعكاسية، وههنا يورد الكاتب العشرات من إسهامات العلماء في توصيف العين والدمع والربط بين انفعالات المرء وبين فيزيولوجية الدمع عنده، نظير ما كشفه ج. طومسون وبيتر لانغ وأنطونيو داماسيو وغيرهم.
على أن أطرف تعليل لظاهرة الدمع على ما بيّنه المؤلف ما قال به الفيلسوف ديكارت من القرن الـ 18، ومفاده أن معظم البشر يميلون إلى البكاء وقد حثتهم عليه انفعالات بلغت ذراها في نفوسهم وهي ستة أساسية، العجب والحب والكراهية والرغبة والفرح والحزن. (ص 90)
ولا يزال حتى يورد المؤلف عدداً من إسهامات العلماء والفلاسفة الغربيين أمثال هارفي وباير وشيرماك وداروين وسبنسر وغيرهم ممن سلطوا أضواء وإن متفاوتة السطوع على الأثر الفكري والثقافي والديني والاجتماعي على تكوين ظاهرة الدمع، وما يلازمها من أفعال وتحولات جسمانية وانفعالية وحركية مما يحسن الاطلاع عليها مفصلة لا مجملة.
سيكولوجية الدموع وثقافات الحداد
أما الفصلان الثالث والخامس فقد اخترت منهما بعضاً مما يعلق في الذهن وما يسهل تداوله، ومنه أن درس سيكولوجية الدموع استلزم من المؤلف جمع مدونة واسعة للغاية من الأعمال الأدبية والمسرحية ومن أدبيات المسرح وفلسفته بقصد التثبت أولاً من الأثر التطهري أو التنفيسي لهذه الأعمال على من يتلقاها ويؤديها على السواء، وثانياً من أجل تبيان الآثار الفيزيولوجية التي يخلفها البكاء والدموع في الشخص الباكي.
ومن الفصل الخامس أن ثقافات الشعوب وحضاراتها، بحسب علماء الأنثروبولوجيا، تؤدي دوراً فاعلاً في تعاطي الناس مع الموت والحداد ومع مفاصل أساس في حياة الجماعات والأفراد، وعلى سبيل المثال فإذا ما التقى شخصان من جزيرتي إندامان (قبالة تايلاند) بعد طول غيبة يتحاضنان وينوحان باكيين مرات عدة، فيما يشكل لقاء الأقارب والأصدقاء لدى شعوب وحضارات أخرى مناسبة للفرح والحبور. ومن ثم يعرض الكاتب لكثير من المواقف والعادات والطقوس والأعراف المختلفة بل المتناقضة حيال الوفاة، وهنا تأريخ مستفيض لأنماط الحداد بحسب الأديان والشعوب والطبقات الاجتماعية وللطقوس المرافقة لها والأشكال المميزة للبكاء الطقسي أو البكاء الحقيقي، وغيره مما يتصل بالوفاة.
يعتبر توم لوتزمن الكتاب الأميركيين الأكثر ظهوراً وله عدد من الروايات المترجمة إلى لغات العالم وأهمها “عمل لا شيء” و”المولود نائماً” و”تاريخ الدموع” و”العصبية الأميركية” وغيرها.