“كثرة الطهاة تفسد الطبخة”… السودان وفشل النظام الإقليمى!

1

المصدر: النهار العربي

محمد حسين أبو الحسن

محمد حسين أبو الحسن

قوة من الجيش السوداني في بورتسودان. أ ف ب

قوة من الجيش السوداني في بورتسودان. أ ف ب

A+A-يراقب السوداني وطنه، بأسى بالغ، بلد ينزف، يغرق، يضيع، ولا يجد طوق نجاة، في معركة عبثية، دمرته طغمة حاكمة فاسدة انتهازية، عسكرية ومدنية، أهدرت ثرواته الهائلة، وفتحت بوابات “الانفجار الكبير”، ومعها جروح لا تندمل… حاضر مؤلم يدفع بالبلاد صوب مصير مجهول. كشفت المأساة السودانية عن هزال وفشل النظام العربي، مع كثرة الأطراف الإقليمية والدولية التي تعبث بالمشهد، ما يترك الفرصة مهيأة لانتقال نيران السودان إلى كل الاتجاهات. بلد غنيلا تنقطع الحروب في السودان إلا لتبدأ من جديد؛ حروب أهلية يخسر فيها الجميع، يدفع ثمنها الأبرياء الذين يجرفهم جنون حرب تلقي بظلالها السلبية على استقرار البلاد، تحطُم بنيتها التحتية وتدمر الخدمات، وتبعثر الأهالي في معسكرات النزوح وبلدان المنافي، برغم أن السودان دولة تحوز من الموارد الطبيعية ما يضعها ضمن “أغنى أغنياء العالم”، لذلك فإن ما يجري الآن هو إحدى حلقات التخريب الذي قد يجهز على ما تبقّى من السودان. وصفت صحيفة “الغارديان” البريطانية الأمر أنه صراع جنرال ضد جنرال، عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ومحمد حمدان دقلو الشهير بـ(حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، وكلاهما ضد الشعب، واعتبرت أنهما متعطشان للسلطة من أجل السيطرة. 

 وللإنصاف فإنه برغم من أن البرهان وحميدتي عبء لا يحتمل على مستقبل السودان ومصيره، فإن القضية الحقيقية أنه لا يمكن لبلد أن يحيا برأسين أو جيشين، أو مؤسستين عسكريتين. دخلت قُوات الدعم السريع الحياة السودانية على حين غُرَّة، بدعم ومباركة عمر البشير، ثم فرضت نفسها كعامل لا فكاك منه؛ ظل التوتر الخفي بينها وبين القوات المسلحة كالجمر تحت الرماد، في انتظار لحظة الاشتعال التي أتت أخيراً، أجنحة تتصارع على السلطة والمصالح، من دون اكتراث بمصالح الشعب، أخذت هذا البلد البائس في طريق لا يدري أحد شكل نهايته، وبدلاً من دفع “المسار الانتقالي” نحو استقرار الأوضاع السياسية والمدنية، وإعادة إعمار ما خربته سنوات من الديكتاتورية والنهب والفساد، يتحركون بالبلد في مسار محفوف بالمخاطر والأهوال، حروب تختبئ وراءها أطماع، وتحرّكها فوائض القوة، بمساندة من أطراف إقليمية ودولية لا يهمها على الأغلب مصلحة الشعب السوداني؛ يعلمنا التاريخ أن “كثرة الطهاة تفسد الطبخة”. عندما يقول حميدتي والبرهان إما المحاكمة أو القتل، فإن هذا يظهر ما يضمره الطرفان من عداء شديد يجعل المعادلة بينهما صفرية؛ بحيث يصعب توافر قاعدة مشتركة لأي تفاوض، فالأهداف والمصالح التي تحركهما متعارضة، والأسس التي يبنيان عليها حساباتهما مختلفة… المحصلة مرعبة: حشود عسكرية وتدمير متبادل وحياة مشلولة وضحايا مدنيون بالآلاف… ونازحون ومشردون عبر الحدود، أخطار التفكيك تطرح نفسها مجدداً على بلد مستنزف، هش اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، وتتناتشه الصراعات؛ هنا موضع الخطر الماثل تحت النيران المشتعلة. دولة داخل الدولةما يهم المواطنين السودانيين وفي دول الجوار هو وقف الحرب التي تدور رحاها الآن؛ لأنها تعرض حياتهم للخطر وبلادهم للضياع، تحدد نتائجها بقاء السودان دولة حرة موحدة أو يتشتت أبناؤها على وجوههم. وهذا يلقي الضوء على نقطتين أساسيتين: الأولى، أن الساحة العربية امتلأت بجيوش موازية تحت مسميات مختلفة، لصرف الأنظار عن أهدافها الحقيقية، ومصادر تمويلها وتسليحها، وعن حقيقة القوى الخارجية التي تدعمها وتحركها، لتصبح مع الوقت “دولة داخل الدولة”، هذه الجيوش الموازية يجب أن تُحل وتختفي نهائياً بقوانين صارمة تحظرها وتجرمها، إذا ما كان للأوضاع الأمنية أن تستقر… ومن ثمّ يجب ألا يكون حاضراً في الدولة سوى جيش وطني يتحمل وحده مسؤولية الدفاع عن أمنها القومي، لا تشاركه في ذلك ميليشيات أو تنظيمات تحتفظ بقوات وأسلحة، تتفوق بها أحياناً على الجيوش الوطنية للدول، وتستخدمها في تنفيذ أجنداتها الخاصة وفي إرهاب الحكومات والضغط عليها. هذه الازدواجية بين الجيوش الوطنية والجيوش الموازية “سمة عربية” غير موجودة في معظم دول العالم، وبرغم أن حل هذه الجيوش الموازية أصبح ضرورياً لتحقيق الاستقرار على المستويين القومي والدولي، فإن ترجمة هذا المطلب الأمني إلى واقع أمر محفوف بصعوبات جمة، وقد يفوق قدرة الدولة على إنجاز هذه المهمة بمجهودها الذاتي، بل قد تفضي المحاولة إلى تفجير حرب أهلية، كما يحدث في السودان حالياً. النقطة الثانية، أن ما جرى في ليبيا واليمن وسوريا والصومال وأخيراً السودان أسقط ورقة التوت عن “عورة النظام العربي”. التدخلات الإقليمية والدولية أوضح من أن تخفى، الجيش السوداني يخشى إدخال أطراف خارجية أسلحة لمن يطلق عليهم صفة “المتمردين”، بينما تعرب قوات الدعم السريع عن خشية مماثلة من تدخلات خارجية مضادة. بثقل الحقائق الجيواستراتيجية، السودان موضوع صراع عليه باختلاف العصور، وإذا كانت التدخلات الخارجية الراهنة يمكن أن تزيد الأزمة السودانية اشتعالاً وتطيل أمدها، كما حدث في سوريا وليبيا، فإن ترك إدارة الأزمة للفريقين المتصارعين بقيادة البرهان وحميدتي سوف ينتهي على الأرجح بتمزيق السودان وتفكيكه، وإغراق دول الجوار والمنطقة برمتها في مسننقع الفوضى والضياع. لا يمكن فصل الأحداث السودانية عن الصورة العامة فى إقليمنا الجغرافي – السياسي، أي ما يحدث في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا وتونس، والأخطار المحيطة ببقية البلدان التي تبدو ظاهرياً مستقرة وحالة السيولة التي تشمل كامل المنطقة. وأياً كانت عوامل الفوضى سواء غياب الدولة أو هشاشتها، أو توحشها، فربما يكون العامل الأشد أهمية في بنية نظام إقليمي متماسك، هو غياب دولة مهيمنة وأساسية في بنية هذا النظام، في مقابل تصاعد نفوذ الدول الإقليمية كإسرائيل وإثيوبيا وتركيا وإيران، وثقل نفوذ القوى الكبرى وتقاطع مصالحها في المنطقة، كأميركا وروسيا والصين وأوروبا. قوة رئيسيةارتكز النظام العربي الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية على “جامعة الدول العربية”، مستنداً على دولة رئيسية مهيمنة إقليمياً هي “مصر”، دولة المقر، وعندما تعرضت المنطقة لخطر حرب أهلية في لبنان عام 1958، كان النفوذ المصرى آنذاك كافياً لاحتواء الموقف والتعامل مع الدولة المهيمنة عالمياً؛ لإطفاء لهيب الحرب الأهلية، التي عادت لتشتعل عام 1975. وعندما هدد عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت في الستينات من القرن الماضي، كان تصريح سياسي من جمال عبد الناصر كافياً لمنع قاسم من المغامرة باحتلال الكويت، لم يتورع صدام عن الإقدام عليها بعد ضعف النظام الإقليمي وقادت مغامرته تلك إلى تفجير هذا النظام بالكامل. اليوم توجد دول أساسية عربية، يمكنها لو توحدت إراداتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً أن توقف التراجع الحاد والأخطار المحدقة بالجميع، وحتى يحدث ذلك فإن شبح الفوضى العارمة يخيم في سماء السودان والمنطقة العربية والقرن الأفريقي وما حولهما. الحرب في السودان لها ما بعدها وهي متداخلة المستويات بطبيعة المشاركين فيها، ما يتطلب التفكير في حلول جذرية قاسية. الحلول الموقتة لا تنتج إلا إعادة تقسيم مقادير أنصبة الحكم لمشعليها، وفقاً لمعطيات القوة على الأرض، وبين بديل التدخل الخارجي المرفوض، وبديل الانفراد بإدارة الأزمة بالحرب والسلاح، وبهذا الشكل الكارثي المتهور وغير المسؤول، تكمن معضلة السودان، فمع تفاقم الانقسامات والصراعات التي تسحق السودان، ومع كثرة الأذرع الخارجية التي تتحرك في العلن والخفاء، فإن فرص التوصل إلى مخرج توافقي مقبول وقابل للتنفيذ من هذه الأزمة الرهيبة، يبدو شبه مستحيل. القوى المدنية على الساحة السودانية لا تقل سوءاً واختلافاً وتحزباً وأطماعاً عن فريقي الجيش والدعم السريع. يقف السودان الآن في قلب الخطر، أمام حائط سد، لا يعرف كيف يبتعد عنه أو يخرج منه، إنها إحدى اسوأ الأزمات العربية في السنوات الأخيرة؛ أضاعت من قبل نصف السودان، وتركت النصف الآخر تحت رحمة الظروف والفاسدين والمتلاعبين من الداخل والخارج!.وذاك حديث آخر.

التعليقات معطلة.